هل نملك غريزة الثّقة بالعالم كالعصفور؟
من منّا لا يحنّ إلى بيت الطفولة ورائحة ذكريات “بيت الأُلفة” العتيق، مهما تقدّم به العمر، تلك الطّاقة المختزنة على ابتداع الحلم، الغافية على ذخيرة هائلة من الإشارات والعلامات والرموز المحفورة على شغافِ القلوب، وقد تركتْ بصماتٍ لا تُمحى على مسامات جلودنا وأرواحنا، دامغةً بخاتَمِها سلوكَنا وطباعَنَا مرّة واحدة وإلى الأبد.
من خلال هذا الحنين النّوستالوجي للمكان يقدّم لنا الفيلسوف الجمالي “غاستون باشلار” في كتابه المهمّ “جماليّات المكان” ترجمة الروائي “غالب هلسا” تصوّراً جديداً للمكان الأليف، معترضاً بذلك على الفكرة الوجوديّة القائلة: حين نولد نُلقى في مكانٍ معادٍ، نولد منفيّين. بينما هو يرى أنّنا نُلقى منذ البداية في هناءة بيت الطفولة، منطلقاً من مبدأ أنّ البيت القديم، بيت الطفولة، أو مكان الألفة، هو مركز تكييف الخيال، وصاحب الدّور الأكبر في صقل هويّة الكائن وذاكرته، إذ مهما ابتعدنا عنه نظلّ أوفياء لذكراه نستعيدها دوماً بمسرّة، ونُسقط على الكثير من مظاهر الحياة الماديّة فيما بعد، ذلك الإحساس الدّفين بالحماية والأمن اللّذين كان البيت القديم يوفّرهما لنا، ذاك البيت الذي: “يركّز الوجود داخل حدود تمنح الحماية”، فنحن نعيش لحظات البيت الحميميّة من خلال العلاقة الخاصّة التي تربطنا بالأدراج والصّناديق والخزائن، التي تخبّئ الأسرار، ويسمّيها الفيلسوف “بيت الأشياء”. ونسقط صفات ألفتها على رموز خارجيّة كـ”العشّ” مثلاً، الذي يبعث فينا إحساساً بالبيت القديم، ويجعلنا: “نضع أنفسنا في أصل منبع الثّقة بالعالم”.
وهنا يتقمّص الفيلسوف أحاسيس طائر صغير قائلاً: “هل كان العصفور يبني عشّه لو لم يكن يملك غريزة الثّقة بالعالم”؟. وكـ”القوقعة” أيضاً، التي تجسّد حالة انطواء الإنسان داخل المكان، في الزوايا والأركان، حيث فعل الانطواء ينتمي بطبيعته الظّاهراتيّة إلى فعل “يسكن”.
وعلى خطى الفلسفة الظّاهراتيّة التي أسّسها الفيلسوف الألماني “هوسرل” سار الفيلسوف الجمالي “باشلار”، مؤكّداً على مفهوم “قصديّة الوعي” أيّ توجّه الذّات بالضرورة نحو موضوعها، إذ لا موضوع دون ذات.
وانطلاقاً من استعادة ذكريات بيت الطفولة تتّخذ ملامح المكان طابَعاً ذاتيّاً، حيث ينتفي البعد الهندسي الواقعي له، ليحلّ محلّه البعد التّخييلي العاطفي مندغماً بالرّوائح والذّكريات والأحاسيس القديمة المحفورة في الوجدان، التي تستيقظ كلُّها دفعة واحدة مع هذه الاستعادة. أمّا موضوع المعرفة الظّاهراتيّة فهو ليس واقعيّاً، تجريبيّاً واجتماعيّاً بل هو “وعي مفارق”. إذ ترى الظاهراتيّة بالوعي المفارق: أنّه مستقلّ عن التجربة والمعرفة العلميّة المحدّدة، وأنه يسعى للبرهنة على “القيمة الخالدة للميتافيزياء”. فمثلاً مصطلح “الأنطولوجيا” الذي استُخدِمَ لأوّل مرّة من قبل الفيلسوف “أرسطو” بمعنى الوجود بشكلٍ عام دون أن ينسحب ذلك على تعيّنات هذا الوجود، أو الموجودات. يعني عند الفيلسوف “هوسرل”: نسقاً من مفاهيم الوجود الشاملة التي يمكن إدراكها بالحدس المتجاوز للحواس والعقل. ومنهج “باشلار” التّحليلي هنا، هو المنهج الظّاهراتيّ، فقد وجده الأصلح لدراسة موضوع الخيال، وهو غير منهجه المنطقي الصّارم في فلسفة العلوم الذي تخصّص فيه يوماً ما، وكتب العديد من الكتب. وهو أيضاً غير منهجه النفسي الذي اتبعه في كتبٍ أخرى، تدور مواضيعُها حول علم الجمال كـ”التحليل النفسي للنار، شعلة قنديل.. وشاعريّة أحلام اليقظة، وغيرها”.
يرى الفيلسوف في دراسته للخيال، أنّه يُلغي موضوعيّة الظاهرة المكانية كظاهرة هندسيّة ليحلَ محلّها ديناميّته الخاصّة، المفارقة، وعندما يتحوّل الخيال إلى شعر يُلغي السّببيّة أيضاً ليحلَّ محلّها “التسامي المحض”. يقول: “حاولتُ أن أبرهن مستنداً إلى بعض القصائد على أنّ الإحساس بالمتناهي في الكبر، والمتناهي في الصّغر يوجد في داخلنا، ولا يرتبط بالضّرورة بشيء”. وهنا يتجاوز “باشلار” فكرته الظّاهراتيّة السّابقة القائلة أنّه “لا موضوع دون ذات” جاعلاً للذّات موضوعَها الخاص، المستقلّ عن الوعي الخارجي، ففي حديثه عن العشّ، يقول: ليستْ وظيفة الظّاهراتيّة وصف الأعشاش كما هي في الطبيعة، فتلك هي مهمّة عالِمِ الطيور، بل هي في قدرتنا على توضيح الاهتمام الذي نطالع به ألبوماً يحتوي على صور أعشاش، أو بشكل أكثر وضوحاً قدرتنا على استعادة الدهشة السّاذجة التي كنّا نشعر بها حين نعثر على عشّ. ويقول أيضاً: “.. حين نحلم، فنحن ظاهراتيّون دون أن نعلم. إنّنا نعيش غريزة العصفور على نحو ساذج بتأكيد الملامح الإيمائيِّة للعشّ الأخضر بين أوراق الشّجر الخضراء.
و”باشلار” يرى خلافاً للظاهراتيّة التقليديّة بأنّ هناك واقعاً موضوعيّاً، له شروطه، وهذا لا تتمّ دراسته من خلال ظاهراتيّة الخيال، بل من خلال قوانين العلم. لذلك يرى “أنّ الوصف الظّاهراتي للأعشاش يصلح فقط لدراسة الصّورة الشّعريّة”.
نهاية يعلّق المترجم “غالب هلسا” على آراء المؤلّف بقوله: رغم هذه الظّاهراتيّة “المخفّفة” ورغم أنّها تستطيع أحياناً أن تحقّق نتائج باهرة، فما زلتُ أعتقد أنّ للظاهرة الفنيّة بعداً موضوعيّاً، واجتماعيّاً، ونفسيّاً، إضافة إلى بعدها الظاهراتي المعنيّ بالمعايشة والخيال.
أوس أحمد أسعد