“اقرأ” أنت في حلب.. دار الكتب الوطنية نموذجاً
حلب- غالية خوجة:
مرّت حلب من بوابات التاريخ والأبجدية والصمود والنصر، وكان وما زال لكلمة “اقرأ” مفهومها التنويري الجليل، وكان ومازال للكتب دورها الحضاري المضيء في هذه المسيرة، وبرز التراث الشفاهي بين الأشعار والتاريخ والملاحم والحِكَم والعِبَر والأمثال والأشعار والأساطير والحكايات والقصص، واعتمرت المساجد القديمة بالعلم والثقافة والفقه والشعر، وكانت غرف المساجد قاعات للتعليم والتدريس والمعرفة والأدب والعلم والرياضيات والفلك والطبيعة والطب، مثل المسجد الأموي ومسجد الخسروية وغيرهما. ثم برزت ظاهرة الكَتّاب، والـ”خوجة”، أي المعلم الذي يدرّس في المساجد، إضافة إلى مكتبات الكنائس ومنها المكتبة الروحية بالعزيزية مقابل كنيسة سان ميشيل.
ومع مرور الأزمنة، صارت مخطوطات العلماء والشعراء والمؤرّخين والرحالة والجغرافيين والفلكيين والمتصوفة وفقهاء الدين والكُتّاب هي الثروة الحقيقية الحضارية. وأخذت الكتب بالحضور، وتنوّعت طريقة بيعها بدءاً من الوراقين، عبوراً بمكتبات الأرصفة، وصولاً إلى المكتبة المارونية التي أسّسها جرمانوس فرحات عام 1705، وما زالت في حلب ساحة باسمه “ساحة فرحات”، إضافة إلى تطورات حياتية أخرى، جعلت من المكتبة ضرورة ثقافية علمية معرفية لا بد منها سواء في المدارس، أو المعاهد، أو الجامعات، أو البيوت.
وهكذا، أضيفت لثروة المخطوطات كتب جديدة نُشرت مع آلات الطباعة وتطوراتها الحالية المؤدية إلى الطباعة الرقمية في عصر التكنولوجية، وبدأت المكتبات تظهر كمكتبات افتراضية إلكترونية، وهذا ما تسعى إليه مكتبة دار الكتب الوطنية بحلب، المصنّفة ضمن المعالم الأثرية المهمّة والإنسانية بحلب، والتي بدأت مسيرتها عام 1924 كفرع للمجمع العلمي العربي، قام بإدارتها الشيخ كامل الغزي والقس مينش، وانطلقت من غرفتين في خان الجمرك بالمدينة القديمة، بينما وضِع حجر أساسها الأول في ساحة باب الفرج عام 1937، لكنها لم تنطلق كمكتبة إلاّ في (4 كانون الأول) عام 1945 بعد الانتهاء من المحتلي الفرنسي والحرب العالمية.
تتمتّع المكتبة بطراز عمراني شرقي أصيل، وحجرها الحلبي يزيدها جمالية، بينما تتوزّع من الداخل، وبمساحة 600 متر مربع، إلى طابقين يضمان قاعة للمطالعة، وقاعة للمحاضرات، وقاعة للدراسات العليا، ومخزن كتب، ومسرحاً يتسع لنحو 300 شخص، يتفاعل مع المحاضرات والندوات والأمسيات والحفلات الموسيقية والمسرحيات التي كان أولها مسرحية (عطيل) لشكسبير، ثم مسرحية المحامي المسرحي منير داديخي عام 1956 وعنوانها (الجزائر تثور)، وكان مخرجها مأمون الجابري، ومسرحية (العسل المسحور/ تأليف عزيز نيسين) وأخرجها المسرحي جوزيف ناشف.
نذكر أن المكتبة تحتضن 100 ألف عنوان من أمهات الكتب في المجالات المعرفية والثقافية والفلسفية والفنية والتاريخية والتوثيقية والعلمية والأدبية والدراسات والبحوث المتنوعة، إضافة إلى الكتب الحديثة، ويذكر التاريخ أن العلاّمة خير الدين الأسدي قد أهدى مكتبته الكاملة إلى دار الكتب الوطنية التي قدّرته بتسمية إحدى قاعاتها باسمه، إضافة إلى تسمية قاعة أخرى باسم الشاعر عمر أبو ريشة الذي أدارها بعد الغزي، تلاهما في إدارتها سامي الكيالي، مروراً بكل من يونس رشدي، محمد غسان شرف، جلال ملاح، وصولاً لمديرها الحالي الشاعر محمد حجازي.
ربما، مازال الداخل إلى المكتبة يصغي مع جدرانها لأصوات الذين حاضروا فيها، ومنهم محمد حسين هيكل، طه حسين، عباس محمود العقاد، بنت الشاطئ، عائشة عبد الرحمن، بشارة الخوري، أمين نخلة، محمد مندور، أمين الخولي، أحمد أمين، سليمان العيسى، أمينة السعيد، محمد أبو زهرة، نقولا زيادة، درية شفيق، جورج طعمة، فؤاد صروف، ميخائيل نعيمة، سامي الدروبي، محمد مهدي الجواهري، عبد السلام العجيلي، فؤاد أفرام البستاني.
ولا بدّ للداخل إلى المكتبة أن يصافح تمثال رهين المحبسين أبو العلاء المعري الذي كسر المحبس الظلامي الثالث للإرهاب، وظل شامخاً، واقفاً على الدرج مع كتابه (رسالة الغفران)، مردداً: “خفّف الوطء ما أظن أديم الأرض إلاّ من هذه الأجساد”.