سطوة الأشياء..!
حسن حميد
في مثل هذه الآونة رحل الأديب آلان روب غرييه الرجل الذي حوّل مسارات الأدب، وطريقة الكتابة الروائية، وكيفية التعامل النقدي مع النصوص الأدبية خلال النصف الثاني في القرن العشرين، فقد ابتدع روحاً جديدة سادت الرواية الغربية في بلدان عدة مثل إنكلترا، وألمانيا، وإسبانيا، والولايات المتحدة الأمريكية، تلخصت تلك الروح بالحديث عن الأشياء وبيان أهميتها، وليس الحديث عن الأشياء من خلال الحديث عن الأحداث والحادثات، لقد أراد أن يتمثل روح العصر بعد حربين عالميتين قاسيتين كان ضحيتهما الكبرى الإنسان، فرأى تراجع أهمية الإنسان في المجتمع الغربي، وتقدم الآلة، والأفكار، والجشع، لا، بل إن الأشياء باتت أهم من الإنسان في هذا العصر لأنه ضحى بالإنسان وأبقى على الأشياء، بعد أن كانت الأشياء من النوافل التي تحيط بالإنسان من أجل خدمته، أما في العصر الحديث وبعد فترة الحربين وما راكمتهما من آثار فقد صار الإنسان يعمل تحت إمرة هذه الأشياء، ويخضع لسطوتها، والآلات جزء أساسي من هذه الأشياء، وهنا تتجلى المفارقة!
آلان روب غرييه، قيضت لي الظروف أن ألتقيه في أحد المؤتمرات الأدبية، فدهشت لوجوده بين ثلة من الأدباء العالميين الذين جاؤوا إلى ذلك المؤتمر الأدبي، وحين رأيته لم أصدق نفسي، كان في عمر الخامسة والسبعين تماماً، قصير القامة، أشيب الشعر، قصير الذراعين والساقين، له لحية كثة بشاربين مقصوصين بانتظام، ترافقه زوجته المتقدمة في العمر أيضاً، وكانت تشبهه تماماً، كما لو أنها شقيقة له، أردت التعرف إليه من قرب، فجمعت قواي لكي أحاوره مع أنني ما كنت أحفظ شيئاً من أحداث رواياته التي نشرتها وزارة الثقافة بدمشق، لأنه ما كان مهتمّاً بالأحداث، والحكايات، والخبريات، قدر اهتمامه بالأشياء والأمكنة التي رأى أنها سحقت الإنسان وطردته من نعمة الحضور في المجتمع العصري، مثلما طردت القيم المتعلقة بكرامة الإنسان بوصفه الكائن الأهم في هذه الحياة، ولهذا قال في بيان لمجموعة من الأدباء كان يتزعمهم: إن التيار الأدبي الذي يتبناه هو التيار المهموم بالأشياء، ولهذا فهو ورفاقه يكتبون الرواية الشيئية لأنها هي التعبير الأبدى والأهم عن روح العصر، وأشار إلى أن مكانة الإنسان تراجعت لأن الأشياء، ومنها الآلات والأمكنة، تقدمت عليه، وبسبب من سطوتها حيّد نفسه الأنموذج الإرشادي الذي وضعه من أجل توكيد أهمية قيم معينة لابدّ من حضورها داخل البيت والمدرسة والشارع، ولابد من التعامل معها وبها من خلال العلاقات الشخصية، وأضاف موضحاً: إن السلاح، والآلات كافة، والأمكنة (ومنها البيوت) والموانئ، والطرق، والأجواء الفضائية غدت أهم من الإنسان الذي أوجدها، وأن هذه الأشياء انقلبت على الإنسان، فبعد أن كان وجودها يستهدف خدمة الإنسان، صار وجودها طارداً للإنسان ومسيطراً عليه.
وسألت صديقي الذي يترجم لـ آلان روب غرييه، لماذا لم يأخذ جائزة نوبل بينما أخذها من كانوا في تياره أمثال: صموئيل بيكيت، وجيمس جويس، وكلود سيمون، فقال: لقد عملت دوائر سياسية كبرى، ذات نفوذ وسطوة، على أن تتخطاني هذه الجائزة إلى غيري، وذلك عقاباً لي على مواقفي، وليس عقاباً لي على أدبي. فسألته عن الموقف الذي حال بينه وبين جائزة نوبل، فقال: لقد قلت: لا للدولة اليهودية الدينية، فهاجمتني الصهيونية بضراوة شديدة، وأنا راضٍ عن مواقفي، ومنها هذا الموقف، لأنني من أحفاد الكتّـاب والأدباء الذين نظّروا للثورة الفرنسية في عام 1798، وما في لباباتها من خير للإنسان.
فعلاً، لقد رحل آلان روب غرييه عام 2008، ولم ينل جائزة نوبل، ولا أي جائزة مهمة في سنوات عمره الأخيرة بسبب مواقفه التي انحازت للإنسان لا للأشياء.
Hasanhamid55@yahoo.com