انحسار حدة التحفظ بعد إصدارها النهائي التشكيلة النهائية لانتخابات غرفة تجارة دمشق تُسقط “سماسرة الأصوات” ورأس المال الريعي
“البعث الأسبوعية” ــ حسن النابلسي
لاقى انتخاب مجلس إدارة غرفة تجارة دمشق، ممثلاً برئيسها أبو الهدى اللحام، الذي تم انتخابه أيضاً رئيساً لاتحاد غرف التجارة السورية، ارتياحاً نسبياً في الوسط التجاري، ولاسيما بعد أن تم الترويج لشخصيات لا تمتلك تاريخ تجار عريق، وأسماء تصنف بأنها حديثة العهد في المشهد التجاري، علماً أنه كان هناك ثمة تحفظ من قبل العديد من التجار على نتائج الانتخابات، قبل اعتماد التشكيلة النهائية وتسمية رئيس وأعضاء المكاتب، ما خفف من حدة التحفظ هذا.
تقص
حاولت “البعث الأسبوعية” تقصي ردود أفعال الوسط التجاري الدمشقي، ولقاء عدد من التجار، حول ما أفرزته الانتخابات من نتائج أحدثت جدلاً بين مؤيد ومعارض، ومشكك وحيادي، ليصل الأمر ببعض المرشحين، ممن لم يفوزوا بالانتخابات، لتقديم اعتراض صريح يؤكد وجود حالات “غش وتزوير”؛ وفي وقت اتهم بعضهم أحد المرشحين علانية بالقيام بذلك – ونتحفظ هنا على ذكر الأسماء نظراً لحساسية الموقف – أكد هؤلاء أن عدم حظوة هذا الشخص، وغيره من المتواطئين، بالتمثيل كمدراء مكاتب، أو بصفات مثل “الخازن وأمين السر”، أثلج الصدور وخفف من وتيرة التحفظ العالية التي سادت بعد إعلان النتائج..!
إيجابية
وبالعودة إلى ردود الأفعال، فقد كانت بالمجمل إيجابية، وانصبت على أهمية أن تقود الغرفة والاتحاد شخصية ذات خبرة تجارية، وتاريخ مشهود له؛ ولا نخفي أن البعض ممن فضل عدم ذكره اسمه، أشار إلى أن النتائج النهائية “أسقطت سماسرة الأصوات” و”أصحاب المال الريعي” من واجهة القيادة، معتبرين أن هذا الأمر بحد ذاته إنجاز..!
ما يتوجب عليها
لن نخوض بسردية ما أدلاه البعض عن مسار وآليات عمل فريق إدارة الغرفة القديم، والذي تمحور حقيقة حول “التقهقر والترهل وخلل العمل التجاري”، وما إلى ذلك من سلبيات، لكننا سنركز على الدور المتوجب أن يضطلع به الفريق الجديد، بدءاً من تفعيل الحركة التجارية، مروراً بتفعيل مجالس الغرف، وليس انتهاءً بتعزيز التصدير كركن رافع للاقتصاد الوطني، وداعم لسعر صرف الليرة.
عراقة ومسؤولية
ويعود تأسيس غرفة تجارة دمشق إلى العام 1840، وتصنف بأنها أقدم غرفة تجارة بالعالم العربي، ولذلك يترأس رئيسها اتحاد غرف التجارة، ما يضاعف بالتالي مسؤولية الموكل إليه قيادة العمل التجاري السوري برمته. وهنا يتطلع التجار إلى أن تقدم إدارة الغرفة الجديدة رؤية استثنائية لتحريك التجارة في السوق المحلية، خاصة بعد أن تعثرت نظيرتها الخارجية “عبر التصدير”، بسبب الإجراءات الاحترازية لوقف انتشار فيروس كورونا، موضحين أن القوام الأساسي لتحريك التجارة في السوق المحلية يتمحور بالدرجة الأولى حول تحسين دخل المواطن من خلال طرح قروض ميسرة بفوائد تشجيعية، وتخفيض كلف الإنتاج ومستلزماته، بالتوازي مع الاضطلاع بالمسؤولية الاجتماعية لجهة الاكتفاء بهامش ربح مقبول بعيداً عن الاحتكار والمتاجرة بقوت “العباد والبلاد”، إضافة إلى قيام المعارض التي تركز على الحسومات الحقيقية وليست الوهمية.
معطلة..!
وقد باتت مجالس الأعمال “غير المفعلة” مجرد “بريستيج” يتغنى به رؤساؤها وأعضاؤها، وفقاً لما أكده العديد ممن التقيناهم، فإذا ما استعرضنا نشاط مجلس الأعمال السوري الصيني – على سبيل المثال لا الحصر – نجد أن حجم التبادل التجاري بين سورية والصين ضئيل جداً، إذ لا يتجاوز – وفقاً لبعض المصادر – الـ50 مليون دولار، بعد أن كان قبل الأزمة يتراوح ما بين 3 – 4 مليار دولار، وانخفض في العام 2015 إلى 4.5 مليون، ليعاود الارتفاع إلى 16 مليون عام 2017، مع الإشارة، طبعاً، إلى أن التصدير إلى الصين لا يذكر، فنسبته قليلة جداً، وبالكاد تصل إلى 1.2 مليون دولار، ويشمل تصدير زيت الزيتون وصابون الغار وأرجل الدجاج، إضافة إلى القطن..! ويطرح هذا الأمر، بالتالي، تساؤلات من قبيل: ما الدور الذي يقوم به المجلس لتعزيز التبادل التجاري مع الصين؟
وما ينطبق على مجلس الأعمال السوري الصيني ينطبق على بقية المجالس التي لم تثبت قدرتها على نسج علاقات تجارية مع نظرائها في دول العالم، بما ينعكس على تعزيز العلاقات الاقتصادية على الصعد كافة، وخاصة الاستثمارية، من خلال جذب رؤوس الأموال للاستثمار داخل البلاد، وليس على من يقتصر نشاطه على العمل التجاري البحت، وتحديداً الاستيراد الذي يستنزف القطع الأجنبي..!
نحو عودة الألق
ولعل أبرز ما بثه عديد التجار، وتحديداً أولئك المتحفظين على نتائج الانتخابات، شجون تندرج تحت عنوان عودة الألق إلى مصطلح “التجارة شطارة”، وما يعنيه ذلك من التزام شيوخ الكار به، ممن تمرسوا عبر تاريخهم التجاري الطويل بأصول مهنة أُس رأسمالها الصدق والنزاهة، والالتزام بمواعيد ومواثيق قطعوها على أنفسهم أمام عملائهم المحليين والعالميين، إضافة إلى تفعيل عجلة اقتصادهم الوطني، ودعم ميزانه التجاري، عبر التركيز على التصدير أكثر من الاستيراد، من خلال البحث عن أسواق جديدة تستوعب المنتجات والصناعات المحلية، والوصول، في نهاية المطاف، إلى توطين التصدير كنشاط وركن أساسي في المشهد الاقتصادي الوطني..!
انحراف
وكان البعض منهم صريحاً عندما أكد أن هذا المصطلح انحرف في الوضع الراهن كثيراً عن جوهره الأصلي، متخذاً مساراً جديداً خطّه شيوخ كار جدد لم يرثوا أصول مهنة الأجداد على أصولها، معتمدين المعنى الأجوف للكلمة، والذي لم يتعد حدود جمع أكبر قدر ممكن من المال، وبغض النظر عن أي أسلوب أو طريقة يبررها محبو الثروة، ولو كانت على حساب المستهلك الذي يعتبر الحلقة الأضعف في سلسلة العملية التجارية ككل، مفضلين الاستيراد على التصدير الذي – على ما يبدو – خرج من قاموس معظم التجار، لاعتبارات لها علاقة بضغط التكاليف وتوفير الجهد والعناء، لدرجة أن أغلب تجارنا تحولوا – حسب بعض المراقبين – إلى وكلاء اكتفوا باقتناء فاكسات يراسلون عن طريقها الشركات المتعاملين معها في الخارج، لتقوم الأخيرة – بناءً على مضمون الفاكس – بإرسال الطلبيات إلى المرفأ، وعندها يأتي شيوخ الكار الجدد لاستلامها وتوزيعها على الأسواق المحلية دون أن يكلفوا أنفسهم عناء السفر، أو حتى معاينة البضاعة في بلد المنشأ، ما حدا بالبعض إلى تسميتهم بـ “تجار المراسلة”، داعين لوجوب إعادة النظر بمفهوم التاجر السوري، لا سيما في ظل تحول أغلب صناعيينا إلى تجار..!
اعتراف
في المقلب الآخر، لم يتفق البعض مع الرأي القائل بأن مفهوم التاجر السوري أُفرغ نسبياً من مضمونه، ليصبح أقرب ما يكون لمصطلح “وكيل” أكثر منه تاجراً، لأن التاجر السوري له تاريخ طويل وعريق في التجارة منذ طريق الحرير. لكن خلال سنوات الأزمة، وما أفرزته من تداعيات – لها علاقة بالحصار والعقوبات – أثرت بشكل كبير على التصدير والاستيراد وخاصة لجهة التحويلات المالية، ليعودوا ويعترفوا بأن كل الاقتصاديات تصدر وتستورد، لكن الاقتصاد الأقوى والأكثر تنافسية يصدر أكثر مما يستورد؛ وأن العكس صحيح بالنسبة للاقتصاد الأقل تنافسية، والذي ثبت في قطاعنا التجاري أن المصدر دائماً – للأسف- هو أضعف من المستورد، وحتى من ناحية الدعايات والحملات الترويجية، نرى أنها بالنسبة للسلع المستوردة أقوى، ومنظمة ومدعومة أكثر، من تلك التي يقوم بها التاجر للترويج لبضاعته في الخارج من أجل التصدير.
إقرار بالضعف
وبرر المنتصرون لاستمرارية ألق مفهوم “التاجر السوري وشطارته” أن ضعف النشاط التجاري له أسباب موضوعية، وأخرى ذاتية، فالأولى تتمثل بملاقاة الاقتصاد السوري تحدياً كبيراً وسريعاً خلال العقد الأخير نتيجة الأزمة، ومحدودية إنتاجيته، لذلك كان من الصعب أن يكون الاقتصاد السوري نداً لاقتصاديات متطورة وذات تاريخ عريق، ومن الأسباب الموضوعية أيضاً الظروف الاقتصادية التي تصيب الدول الأضعف أكثر مما تصيب الدول الأقوى، ومنها الظروف المناخية، وجائحة كورونا التي أصابت كل الدول، وكانت أكثر إيلاماً للاقتصاديات الأضعف، وسورية منها، إضافة إلى أن كل دول العالم، وحتى ذات النشاط التصديري الأقوى، أصبح نشاطها أقل من العادي نتيجة هذه التغييرات.
أما الأسباب الذاتية فتتمحور حول عدم تطوير قطاعنا التجاري العام والخاص، سواء من ناحية السرعة والوتيرة اللازمة مع تطور التحديات التي تواجهه، أو من ناحية زيادة الإنتاجية والقدرة التنافسية، وضبط التكلفة وسبر الأسواق والتعاون مع الأسواق العالمية بفكر متطور وبشكل منظم لكي يصبح أكثر ندية من السابق.
غش وتدليس
بدأت بعض حالات الغش والتدليس تطفو على سطح تجارتنا الخارجية والداخلية، لكنها من نوع خاص جداً، تتمثل بسرقة علامات تجارية عالمية ولصقها على منتجات محلية، وبشكل مخالف للقوانين والأنظمة النافذة، الدولية منها والمحلية. وللأسف، هناك شركات محلية نظامية ومعروفة تقوم بذلك في ظل تحول كثير من الصناعيين إلى تجار. وفي وقت لم ينف بعض شيوخ الكار وجود هذه الحالات في سورية، فإنهم اعتبروا انتشارها أكثر وضوحاً في القطاع غير المنظم، حيث تباع السلع على أنها مواد مهربة تحت أسماء ماركات عالمية وخاصة على البسطات المنتشرة على الأرصفة.
ومن أنواع الغش، الأكثر خطراً، استيراد كمية محددة من مواد وسلع ذات ماركات عالمية معروفة، يوضع مقابلها عدد أكبر من سلع محلية تلصق عليها الماركة نفسها، ويتم دمجها مع بعضها ضمن فاتورة المواد المستوردة، وتباع الكمية كاملة في السوق المحلية على أساس هذه الفاتورة، علما أن المواد المحلية قد تكون في كثير من الأحيان موازية من ناحية الجودة لنظيرتها المستوردة.. إن لم تكن أكثر جودة…!
نحو شراكة حقيقية
ما سبق يضع الإدارة الجديدة للغرفة على محك الاضطلاع بمسؤوليتها الني نعتقد أنها ليس بالسهلة، فتجاوز ما ذكرناه من تحديات وإشكاليات، يحتاج بلا شك إلى إدارة استثنائية وإرادة جادة لتغيير المشهد التجاري، ولعل ذلك يتطلب الاشتغال الفعلي على مبدأ الشراكة الحقيقية مع الحكومة، لإصدار قرارات توافقية بين الطرفين لتصحيح مسارات العمل التجاري، وبالتالي فإن أبرز ما هو مطلوب –برأينا- من الغرفة بحلتها الجديدة، تشخيص أوجاع العمل التجاري برمته، وبشكل دقيق ومنطقي، واجتراح الحلول الناجعة، ووضع الحكومة والجهات المغنية بصورتها التفصيلية والاشتغال على تنفيذها.
لا نخفي تفاؤلنا بما أفرزته نتائج انتخابات الغرف عموماً وغرفة تجارة دمشق خصوصاً، لاعتبارات تتعلق بالدرجة الأولى بأن هذه النتائج تمخضت عن أسماء أقل ما يقال عنها: (لم تغادر البلد أسوة بغيرها، وآثرت البقاء والعمل تحت أصعب الظروف وأقساها في تاريخ سورية المعاصر)، لكننا نشير في ذات السياق إلى أن الفائزين بها ورغم تحفظ البعض على أداء بعض الأسماء خلال الدورة الماضية، هم الأَولى بالمزايا الاستثمارية التي تتمتع بها بلادنا، وعلى سلطتنا التنفيذية أن تضع هذا الأمر بالحسبان، وأن تتلافى أخطائها الماضية في هذا الجانب أيام الرخاء والاستقرار عندما كانت تجهد لجذب مستثمرين استنزفوا مُقدرات البلد دون أن يردوا ولو جزءاً مما منحتهم من تسهيلات استثمارية، تماماً كمزارع يستنزف خيرات أرض خصبة بزراعات على مدار مواسم متتالية دون أن يغذيها بما يلزم من أسمدة ومواد عضوية فتتحول إلى أرض قاحلة، ويبحث المزارع بدوره عن أخرى أكثر خصوبة…!.
ختامها مسك
ونختم بقصة، طالما استشهدنا بها في هكذا مناسبة، تتمثل بما قام به رئيس وزراء ماليزيا السابق مهاتير محمد، خلال أزمة المضاربة في تسعينيات القرن الماضي، والتي قام بها رجل الأعمال الأمريكي جورج سيروس، في محاولة منه ضرب الاقتصاد الماليزي، حيث لجأ رئيس الوزراء – آنذاك – إلى منع المستثمرين من مغادرة بلاده لمدة عام، كي يستعيد الاقتصاد عافيته، وبعد انقضاء فترة المنع فتح المجال لمن يرغب من المستثمرين بمغادرة البلاد، فما كان منهم إلا أن تراجعوا عن قرارهم السابق، وآثروا البقاء ومتابعة الاستثمار في ماليزيا.. وتعيش سورية اليوم مرحلة حرجة تستدعي أن تكون فعاليات هذا القطاع على قدر كبير من تحمل مسؤولياتها، لا أن تهاجر بعد أن قطفت ثمار امتيازات ما كانت لتحققها في كثير من دول العالم، خاصة تلك التي نشأت وترعرعت من ألفها إلى يائها في ظل حماية ورعاية حكومية. وللإنصاف، نذكر أن بعض رجال أعمالنا ممن لمعت أسماؤهم وشهرتهم الاقتصادية في بلاد الاغتراب، لم يتنكروا لبلدهم في ظروفها الحالكة، فقدموا مبادرات إنسانية وخدمية للمتضررين، وأملنا معقود على الأعضاء الجدد في اتحادات غرفنا التجارية، لجهة التعاطي مع هذه المرحلة بجدية، وتلافي الأخطاء السابقة، والعمل بالدرجة الأولى على تأمين احتياجات أسواقنا بأسعار منطقية، وتوفير فرص عمل لشريحة الشباب على اعتبار “ما حك جلدك مثل ظفرك”، مع تهانينا الحارة لجميع الفائزين.