الافتقاد للمرجعية الأدبية
“البعث الأسبوعية” ــ سلوى عباس
في كل مرحلة، أو كل عدة أجيال، ينبثق الحلم بتجاوز الماضي، وإعطاء ما لم يعط من قبل.. هذا الأمر في شتى جوانب الحياة، وهو جزء من الطبيعة البشرية، خاصة أن ما يميز الرواية الجديدة، سواء السورية أم العربية، هو فكرة البحث عن الذات واعتبارها موضوعاً مكتملاً بكليته، بعيداً عن الأيديولوجيات، أو حكايات من خارج النص، وعنايتها بهذه الذات، وبالحياة بشكل عام؛ وهذا ما ينطبق على الكتابة عموماً، فنحن جميعنا نكتب على قدر معرفتنا بالحياة وعلاقتنا معها، وأسئلة الوجود والذات هي التي تحكم النص الإبداعي السوري. وبالمقابل، هناك من الأدباء من يرون أن الساحة الروائية تعاني من الفراغ، وأن الروائيين الشباب لم يجدوا مكانهم حتى الآن، لأسباب عديدة منها أنهم لم يأخذوا فرصتهم – دون تعميم هذا الرأي – لأن هناك من أخذوا فرصتهم وأكثر، والغالبية لم تتح لها فرصة النشر، مع تأكيدهم على أن الجيل القديم لم يبخل عليهم بالفرصة، ولم يكن حجر عثرة أمامهم، بل مشكلتهم مع أبناء جيلهم، حيث التنافس الأعمى يسيء إليهم، وإلى أعمالهم، فبعضهم مغرم بأن يكون الأهم والأول والفريد من نوعه في عالم الرواية، ويلعب دور المُنظر والرائد، لكنهم ينسون أن عالم الرواية يتسع للكثيرين، فهو لا يعاني من التخمة، ومن السخف اختزاله بواحد أو اثنين.
هناك صراع بين جيل يبحث عن الاعتراف بوجوده والتحرر من وصاية الرواد؛ وتاريخ الإبداع يشهد من حين إلى حين قطيعة ما، لكن القطيعة التي تستوعب الماضي وتتجاوزه، وأنا بحكم طبيعة عملي أتابع ما تكتبه الأصوات الجديدة، وقد قرأت العديد من الروايات والقصص والمجموعات الشعرية لكتاب وكاتبات لا أعرف أكثرهم بشكل شخصي، وهناك كثير من الأصوات التي أسعدني أني قرأت لها، وهناك من الأصوات الشابة التي تعلمت منها أيضاً، فأنا أكبر بقراءة بأي نص جديد، إن كان لكاتب عمره ثمانون عاماً، أو لكاتبة عمرها عشرون عاماً. وبعيداً عن كل هذا، هناك تجارب مبدعة وحقيقية من هذا الجيل. وعلى هؤلاء الشباب الذين اتجهوا للإبداع بمجالاته المتعددة، من فن وأدب وشعر، أن يسلموا أرواحهم بحرية للمجال الذي اختاروه، فإذا لم يخرج المبدع إلى هذا الأفق الرحب لا يمكن أن يكون هناك إبداع، فالاستمرار في إثبات الذات الإبداعية أصعب بكثير من الالتماعة الأولى التي يمكن أن تحمل موهبة طازجة، وذائقة مرنة غير مأخوذة بأسلوب معين.. فيها براءة وعفوية، لكن لابد من العمل والتعب والتواضع أيضاً، لأن الغرور مقتل للأصوات الجديدة، سواء في المقابلات الصحفية أو التلفزيونية أو الجوائز أو الشهرة؛ وكثيرة هي الأسماء التي يصيبها العماء والطرش مباشرة، لكن الخرس لا يصيبها، بل تستمر بالثرثرة حتى تطغى على الإبداع الحقيقي. وهنا أتوقف عند حديث جرى بيني وبين أحد الشباب أخذته أحلامه باتجاه الشعر الذي أصبح فضاء لكثيرين، لكنه يعتبر أن كل ما كتب قبلهم لا يحاكيهم، ولا يعبّر عنهم، فيسعون إلى قتل الأب، ورفض الوصاية، فهل للشباب أن يقفوا مع أنفسهم ويضبطوا إيقاع أفكارهم بما يتناسب مع معطيات العصر، لا أن يتعالوا عليها ويجدوا أنفسهم يدورون في حلقة مفرغة، وليكونوا بالفعل أبناء الحياة التي يستحقونها؟!
والمفارقة أن ما نراه لدى الجيل الجديد من رفض لوصاية الكبار في مجال الأدب.. نرى الحالة مغايرة في باقي الفنون؛ ففي المسرح مثلاً، هناك عدد من الأكاديميين يعزون الأزمة التي تعاني منها الكتابة المسرحية للفراغ الذي تركه المؤسسون، ولم يملأه الكتّاب الجدد، حيث يرون أن المؤسسين طرحوا هوية المسرح، بينما الجدد يغرقون في المشاكل الخاصة، كما أنهم لا يتابعون مشروعاً، وكأنهم بلا آباء، فتتطابق رؤية هؤلاء الأكاديميين المسرحيين مع رؤية المخضرمين في الأدب والفنون بأن الجيل الجديد فاقد الأب، وفاقد الأنموذج والمرجعية الأدبية من الماضي الذي يُفترض أن يتكئ عليه، وهذا الأمر قد يشكّل أحد أهم صعوبات الكتابة، سواء في المسرح أم في الأدب.