جذع في الحديقة يغني
حلب- غالية خوجة:
ليست التكنولوجيا هي التي تصدح بموسيقاها وأصواتها في حديقة حلب العامة، بل العصافير وصوت المطر وأجنحة الفراشات، وحنان النسمات على الأعشاب، وذكريات النافورة المضيئة، وتأتأة ألعاب الأطفال، والأراجيح المنتظرة، وصدأ الذكريات المتناثرة بين الجذوع والورود وأوراق الشجر المعلنة عن خريف فصيح، صداهُ يردد أحاديث النسوة والأصدقاء، وخطوات العابرين، وصمت “كورونا”، ومرور أشعة الشمس على الساعة الحجرية القديمة، بينما ترقص جذوع الأشجار العتيقة خلسةً من البرد، لكنها شامخة وفخورة بوجودها على مساحة 17 هكتاراً من الأرض الخضراء التي تشبه نجوم العلم السوري الذي يرتفع عالياً دائماً، وحانياً دائماً على تاريخ عريق تعكسه بأشعة متفردة حديقة حلب العامة كرئة أساسية بدأت تتنفس مع العائلات والحفلات والأطفال والشباب والكبار منذ 1949.
وحالما يستقبلك بترحاب شديد تمثالها المنتصب أمام مدخلها الرئيسي، تدرك، حالاً، بأن الشاعر أبو فراس الحمداني مازال مرحباً بك وبالمتنبي والأصفهاني ومجموعة من العلماء والأدباء والدارسين والمؤرخين والفلاسفة والمفكرين والشعراء، وبأم كلثوم أيضاً التي غنت له قصيدته “أراك عصي الدمع شيمتك الصبر” التي مرّ عليها ألف عام، وتسمعها مغنّاة بحناجر جذوع الأشجار المتخذة لأشكالها لوحات سوريالية طبيعية، تسحرك بجمالها الجذاب المتفرد الغامر.
والصبر عالم يتقنه العربي السوري ويتفنّن في التعامل معه حياتياً وعملياً وفنياً، كما يتقن الفن والطرب والأدب، ولذلك، تجد هنا وهناك، في حديقة حلب العامة، تماثيل حجرية رمزية، ومنحوتات لأعلام وشخصيات فكرية وعلمية وأدبية، إضافة إلى لوحات جديدة لصور شهداء الوطن وهي تتحدى الإرهاب بابتسامة واثقة وعزة ووسامة باسقة، والممتزجة مع لوحة البيئة الطبيعية من أعشاب متدرجة بين الأصفر والأخضر وتشكّلات نباتية تواصل الصبر ليلاً ونهاراً، لتُكمل دورتها الشامخة إلى السماء، وتلقي بظلالها على أصوات الأغاني، وإشراقات الموسيقا.
هناك، وأنت تعبر، بين شروق وغروب، حدّقْ في ظلك قليلاً لتراه كيف يزهر، وحدق في جذوع الأشجار التي شاهدت العشرية الدموية الظلامية على الوطن، لتجدها كيف تستمر بالتغني بالنصر أولاً وأخيراً، وبانتصار الأمجاد والحاضر والمستقبل دائماً وأبداً.