حلب.. كل شيء تراجع بسبب الحرب وكورونا والحصار الاقتصادي.. فما بالنا بالسينما!!
“البعث الأسبوعية” ــ غالية خوجة
هل ما زال للسينما إيقاعها العالي في العالم الأجنبي والعربي والمحلي، وخصوصاً في حلب؟ ما مصير شاشة الفن السابع في عصر الشاشات الالكترونية؟ متى تكون السينما غير تقليدية، شكلاً، ومضموناً، وأداء؟ وماذا عن سينما المدرسة والجامعة والشباب، لا سيما وأن هناك مهرجاناً ومسابقات لسينما الشباب للأفلام القصيرة؟ وسينما الهواء الطلق؟ وسينما النوادي والجهات الثقافية والفنية؟ ما اقتراحاتك؟
للسينما حضورها التاريخي الصامت مع شارلي شابلن، والصائت الذي استقطب العالم، عبوراً بالشاشة الصغيرة “التلفاز”، وصولاً إلى عصر الشاشة الالكترونية، وتحولات الثورة الرقمية التقانية، ووسائل المشاهدة المرئية والمسموعة، والتي وصلت إلى ساعة اليد الذكية، والتي استغلها الظلاهناميون والإرهابيون، تماماً كما استغلوا الإعلام بكافة وسائله ووسائطه التقليدية والكلاسيكية والحديثة والتقانية من أجل الذبح والقتل والتدمير.
لذلك، ولأهمية دور الفنون والثقافة والإعلام، اجتماعياً ونفسياً وتوجيهياً وصناعةً للحياة، وبناء إنسانياً، كان لا بد من هذه الإطلالة البانورامية على السينما التي ما زالت مبانيها تروي حكاياتها السبّاقة مع المجتمع الحلبي منذ عام 1908، بينما بدأت حكايتها مع المجتمع الدمشقي عام 1912، ثم انطلق تصوير أول فيلم سينمائي سوري عام 1927، واسمه “المتهم البريء” (أيوب بدر ورشيد جلال وشركاؤهما)، ثم ظهر الفيلم الصامت “تحت سماء دمشق”، تلاهُ فيلم “نداء الواجب”، بينما يعتبر بهجت المصري أول منتج سينمائي سوري، ثم بدأت الحياة السينمائية تتسع لتصبح السينما المرايا العاكسة لواقع الحياة، وصارت تنافس السينما العربية والعالمية بقوة، وأنتجت المؤسسة العامة للسينما مئات الأفلام الطويلة والقصيرة والوثائقية والتسجيلية، ونالت جوائز مميزة، في مهرجانات مختلفة، منها مهرجان فالنسيا الدولي، ومهرجان موسكو الدولي، ومهرجان كان الدولي، ومهرجان قرطاج، ومهرجان القاهرة، ومهرجان دمشق. ولا بد من الإشارة، هنا، إلى أن المؤسسة العامة للسينما ما زالت تعرض، في زمن كورونا، أفلامها عبر مبادرة “السينما في بيتك”، من خلال منصة “فيمو Vimeo.
وهكذا، ومع الأثر الرجعي لمطلع القرن التاسع عشر، نلاحظ كيف انتشرت الثقافة السينمائية مع دور العرض السينمائية في حلب، لا سيما الجاد منها، مثل بعض أفلام كل من سينما “الشرق”، “حلب”، “النصر”، “رويال”، “أوبرا”، “فريـال”، “الحمراء”، “أوغاريت”، “فؤاد”، “الزهراء”، “الكندي”، وغيرها، وما زالت منصاتها تستذكر كيف تقضي العائلات نزهاتها في السينما التي تظل أفلامها حكايات الجارات واللقاءات العائلية والصداقة ومناقشات الأندية السينمائية والأمسيات، وذلك لغاية أواخر الثمانينيات، وهي الفترة التي بدأ فيها الخط البياني لفن السينما بالهبوط لدرجة “الإغلاق حتى إشعار آخر”، لأسباب كثيرة. وكم من الأفلام الأجنبية والعربية والمحلية تمّ عرضها، وكم عاد الكثيرون من شبّاك التذاكر لأن بطاقات الفيلم بيعت جميعها، وكم من حالات ما زالت تريد من يكتبها كسيناريو سينمائي، وينتجها، ويخرجها، خصوصاً، في زمن الحرب الإرهابية على سورية.
حول هذه الحالة التي أصبحت فيها حياة كل منا فيلماً سينمائياً بحدّ ذاته، كان لـ “البعث الأسبوعية” هذه الجولة مع آراء مختلفة تنتمي لفئات مختلفة.
لننطلق بالسينما الافتراضية
لنتساءل أولاً: هل هناك سينما أم لا؟ يجيب عبد الخالق قلعه جي مدير إذاعة حلب: لست متابعاً للسينما، لكن، فيما مضى، منذ 20 عاماً، كان هناك بعض دُور سينمائية حريصة على إدراج أفلام مناسبة ذات سوية، وحالياً، ليس هناك حضور للسينما لأنه ليس هناك سينما بالأصل، باستثناء سينما “الشام” في فندق شهباء الشام، التي عرضت أفلاماً ذات سوية عالية مثل أفلام نجدت أنزور، ورأيي عائم لأنه ليس برأيٍ تخصصي.
وتابع: العودة إلى الطقوس السينمائية تتطلب شروطاً من الواجب توافرها، لأن للفن السابع رسالة، ولهذه الرسالة جوانب مختلفة تربوية وتثقيفية وتعليمية وعلمية وتنويرية وتعريفية، تبتعد – بكل تأكيد – عن الابتذال والابتزاز والرخص الطاغي في السينما في شارع بارون، والعبّارات، وما إلى ذلك؛ وهذه الرسالة الفنية تستهدف جمهور السينما الذي يفضل الطقس السينمائي، ذاك الذي له حضوره في الذاكرة الفنية والاجتماعية، وتمثّلها مؤخراً “سينما الشام”.
وأضاف قلعه جي: استثمار هذا الموضوع للجيل الشاب مهم – ليس المتسكع بل الجيل – الذي لم يعد بحاجة ليذهب إلى كوة التذاكر من أجل حضور فيلم، بل أصبح يتجه إلى “اليوتيوب” ومحركات البحث.
واقترح قلعه جي تشكيل نواة سينما الكترونية، محلية تنطلق من حلب، أو من سورية بشكل عام، مؤكداً أن من الضرورة في هذا الزمن إنشاء منصة لعرض الأفلام تهدف للمتابعة واستقطاب الشرائح، لا سيما جيل الشباب، وهذا هو البُعد القريب والبعيد، لأن من المهم أن نعرف ماذا يريد الجيل الشاب مبدئياً، لنمد أيدينا له شكلاً من حيث الفنيات والتقنيات العصرية المناسبة، ومضموناً من حيث حداثة الموضوع والفكرة، لنصل إلى كيفية تقديم سينما افتراضية لا تجعل الجيل مستهلكاً بل منتجاً للسينما.
لكن، ما هو دور إذاعة حلب سينمائياً؟ وهل تفكرون ببرنامج توعوي حواري ممكن أن نسميه، مثلاً نادي السينما الإذاعي؟ سألته، فأجابنا قلعه جي: المتابعة، وتسليط الضوء، والنقد، من مهامنا الإذاعية، وكان لدينا برنامج صور درامية، يقدمه د. فايز الداية، كنا نتناول حياة وقصص مخرجين وعروض أفلام، ونعمل على التغطية عند الافتتاح، واللقاء مع فريق العمل، ونستمع للجمهور والمشاهدين، محاولين الإحاطة بكافة الجوانب المتعلقة بالفيلم، كما أن إذاعة حلب حرصت على متابعة السينما بشكل عام، والسينما الشبابية، سواء في نقابة الفنانين أو الجامعة.
واختتم: سيكون للإذاعة دورها المميز حالما تكون هناك سينما في حلب، وقد يكون هناك برنامج أسبوعي حواري يستكشف عمل الإذاعة في هذا المجال.
تفعيل أمّ الفنون
تبقى السينما بالتوازي مع المسرح أم الفنون، بل تتميز عن المسرح بكونها الأقدر على الانتشار عالمياً، ونقل رسائل ثقافية تحقق تمازجاً وتشابكاً فكرياً وثقافياً بين الحضارات وثقافات الشعوب.. بهذه الكلمات، أجابنا جابر الساجور مدير الثقافة بحلب، وتابع: في سورية، السينما تنقسم إلى السينما التجارية التي توقفت منذ بداية الحرب، والأفلام التي تنتجها المؤسسة العامة للسينما، وهي على الأغلب أفلام جوائز تحقق حضوراً جماهيرياً متواضعاً. وفي مدينة حلب، حالياً، سينما “الزهراء” فاعلة فقط، ومديرية الثقافة تسعى لتفعيل النادي السينمائي في مركز العزيزية، وهناك مساعٍ لإحياء سينما “الكندي” لتكون منبراً سينمائياً لعرض أهم الأفلام المحلية والعالمية الجادة.
وأكد: المتابع للمشهد الثقافي في المدينة يلاحظ حنيناً وشوقاً كبيرين في الشارع الحلبي المهتم بالثقافة لمشاهدة أهم العروض، لأن السينما ستبقى مقصداً لنخبة مهمة من المثقفين كالكتاب تماماً.
أفلام أمريكية وبأسعار مرتفعة!
أخبرنا الكاتب والمسرحي د. وانيس بندك عن علاقته بهذا الفن: أنا شخصياً منقطع تماماً عن السينما، لأنه أصلاً لا توجد سينما في حلب، ما عدا صالتين أولاهما صالة سينما “الزهراء”، وأسعار بطاقاتها مرتفعة جداً، وتعرض على الأغلب أفلاماً أمريكية فيها عنف وإثارة لجذب جيل الشباب وبأسعار مرتفعة جداً، وثانيتهما صالة “الشام” وتعرض أفلاماً في مناسبات معينة، أما في الجامعة فليست لدي فكرة عن نشاط السينما.. ربما، هناك نشاطات لاتحاد الطلبة في المناسبات يعرضون خلالها بعض الأفلام، ولكن، لم يعد هناك أي زخم كما كان في الماضي، سواءً في الجامعة أو صالة فندق شهباء الشام.
وأكد بندك: كل شيء تراجع خلال فترة الحرب، والآن الكورونا، والحصار الاقتصادي، وأصبحت الناس لا تفكر إلا بشيء واحد فقط، هو كيف تعيش وتواصل الحياة وهموم الحياة وكيف تتفادى الكورونا!! لقد تراجعت جميع النواحي الثقافية خلال العشرية الماضية، فما بالنا بالسينما التي هي غائبة أصلاً، إضافة إلى أن صالات السينما مغلقة منذ زمن بعيد، إلا عند المهتمين بها ويحبونها وصاروا يشاهدون الأفلام التي يريدونها عبر الفيديو.
بين الحرب والتكنولوجيا ضاعت السينما
بدوره، أشاد عماد سامي دقس، رئيس الديوان العام في مجلس مدينة حلب، المُجاز في اللغة الإنكليزية وآدابها، بأهمية حلب كمدينة للآداب والعلوم والفنون: امتازت العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين بنهضة وازدهار دُور السينما وتميز العروض والرواد، لكن، ونتيجة ظروف الحرب وما قبلها من تطور تكنولوجي، فقدت السينما ألقها، وتلاشى معظم متابعيها، واستبدلت هذه الشاشة البيضاء العظيمة بشاشات سوداء زئبقية صغيرة. وتابع: بعيداً عن العروض التجارية والرخيصة، ما زالت تعيش في ذاكرتنا الأفلام الرائعة ذات الرسالة الإنسانية والمحتوى النابض بالقيم والمضمون الزاخر بالمعاني التوجيهية. وتابع: سينما جامعة بسيطة، مبتدئة، فقيرة تحتاج إلى الدعم، ولكي تعود للسينما الحياة ينبغي أن يعود لها نبض قلبها، أوكسجينها، دمها، وروداها الحقيقيون.
ماذا لو عادت أندية السينما؟
بينما رأى الطبيب د.إسماعيل قصار أن السينما في حلب أصبحت منسية لأسباب كثيرة: أولاً بسبب التطور التكنولوجي العالمي، وثانياً بسبب الحرب، وثالثاً وحالياً بسبب انتشار الأوبئة، والفن السابع، بشكل عام، في صراع لأن يكون أو لا يكون. وأضاف: أود لو أن هناك اتجاهاً آخر لهذا الفن، وهو إيجاد طرق معاصرة ومناسبة، مثلاً، كما في السابق حيث كان هناك نادٍ للسينما يهدف للتوعية الفكرية جماهيرياً، بين شرح وإيضاح كيفية تسييس السينما العالمية، ومنها صناعة داعش الداخل والخارج؛ والاتجاه الآخر هو تنمية ثقافة دراسة هذا الفن لمن يرغب.. مثلاً، هوليوود تحضر أفراد المجتمع البسيط لكي يصبحوا مدمنين على مشاهدة القتل والتمثيل في الجثث، لتصبح لديهم هذه المناظر مألوفة، وكذلك، تحضير المجتمع الأمريكي لمجموعة أمراض نفسية، مثل داء العظمة والسادية والمنقذ الخارق للعالم.
نحتاج لشاشة هادفة
محمد جمال معرستاوي، طالب حقوق، ويعمل في جامعة حلب: للأسف، في الفترات الأخيرة التي عشناها، وخصوصاً، في ظل الشاشة الالكترونية وعالم “النت”، أصبح دور السينما – عالمياً وعربياً ومحلياً – شبه معدوم، فإضافة إلى تطور الشاشة وعوالمها الرقمية، وتأثيراتها السلبية على الشاشة الكبيرة، هناك أسباب وعوامل أخرى أثرت سلباً أيضاً على كل ما لدينا من عادات وتقاليد اجتماعية، ومن ضمنها دور السينما في حياتنا التي كنا نهتم بها، وكان لها دور مؤثر في حياتنا الاجتماعية، وللأسف، فقدنا أشياء كثيرة جميلة في جميع المجالات، ونتمنى عودة السينما الجادة الهادفة بأسلوب حديث.
شاشة كبيرة بلا رواد
وأكد أحمد خليف الحسين، أمين مكتبة اتحاد الكتاب – فرع حلب: الآن، لم يبق بحلب سينما فاعلة، ولم يبق لها رواد، علماً أن الشاشة الصغيرة تعمل في المنازل، لكن دون مشاهدة، بسبب كثرة شاشات الموبايلات التي أصبحت في مقتنى كل فرد، إضافة إلى وجود الأفلام على محركات البحث، ما يجعلها في متناول الكبار والصغار، ولذلك، فإن مصير الفن السابع أصبح، فقط، للمهرجانات والمسابقات الدولية. وأضاف: للسينما أن تعالج القضايا، وألاّ تتبع الإغراء والشهوات والجسد، أما عن سينما الجامعة فيجب أن تكون موجودة وفاعلة وتهتم بالأفلام الوثائقية المحاكية لقضايانا المعاصرة، إضافة إلى الابتعاد عما هو قديم، وبعيد عما يحدث في المنطقة من تطورات جارية وتفاصيل لا تخرج للعوام.
السينما مدرسة
ورأت جودي شغالة وهي طالبة جامعية – علم نفس – أن السينما تمتعت بصدى كبير سابقاً، لكن أهميتها تلاشت مع التطورات الحاصلة، واسترسلت: مصير شاشة الفن السابع ناجح فيما لو سارت نحو التطور دون إلغائها، لأننا في عصر التكنلوجيا، ولأننا نحقق الكثير من الإنجازات من خلالها، وذلك عندما تكون غير تقليدية، أي عندما يصبح العمل شاملاً بمعنى جماهيرياً، ويقدم مواضيع محايدة لكافة الأعمار، ومتماشية مع مختلف التطورات الفنية والثقافية والمعاصرة، ما يساهم في تحويل السينما إلى مدرسة تنمي وتطور العديد من الأشياء الكامنة، كما تساهم في تطوير الذات والمجتمع بدءاً من العاملين في هذه المجالات.