نقوش .. مرحبا أيها العصفور
“البعث الأسبوعية” محمد كنايسي
يصيبني رعب شديد عندما أتخيل أن العصافير يمكن أن تختفي ذات يوم من هذا العالم، وأني أستيقظ صباحا فلا أسمع زقزقاتها، وأنظر إلى الأشجار فلا أراها..
ولوهلة من الزمن، أصدق أنها اختفت فعلا فيخنقني اختفاؤها، وأشعر أن الحياة بدونها صحراء قاحلة لا ينبت فيها إلا الرمل، ولا تهطل إلا الشمس.. ثم أعود من الخيال حامدا الله على أنه خيال، وعلى أن العصافير مازالت تملأ العالم رغم الحروب والحرائق والتلوث وغيرها من كوارث يسببها جشع الانسان وأنانيته وقسوته ولؤمه..
لا أدري لماذا أحب هذا الكائن الصغير الضعيف، وأشعر أن فكرة وجوده في حد ذاتها تجعلني أعيش حالة من الهدوء والسكينة والطمأنينة، وأخرج لبعض الوقت من سجن الكآبة التى لا تدعني وشأني، والقلق الذي يتابعني كظلي..
لا أدري لماذا لا أعرف هل أبكي أم أضحك كلما اقتربت منه، ورأيت اللطف والرقة ينبضان تحت ريشه ويتجمعان في صوته. هل لأنه يذكرني بالطفل الذي كنته، وبالنقاء الذي فقدته، أم لأنه يجعلني أشعر بمدى الظلم الفادح الذي ألحقته بنفسي عندما اخترت – وليتني أعلم لماذا – أن أكون ما أنا عليه: رجل تأخر كثيرا في معرفة أنه أخطأ خطأ قاتلا عندما فارق الشجرة والساقية والفراشة والعصفور والكلب والدجاجة.. وذهب برجليه إلى قلعة الايديولوجيا حيث عاش طويلا مع أفكار لم يكتشف أنها جثث محنطة، إلا عندما حلم ذات ليلة خريفية، وقد تجاوز الستين من العمر، بأن عصفورا أخضر زاره، وقال له: لقد جئت لإنقاذك من هذا السجن الذي زججت بنفسك فيه دون أن تدري، فاغمض عينيك وامسك بجناحي لأطير بك من هنا، ولا تقل في نفسك إني صغير الحجم، ولا أستطيع أن أحملك، فهذا العصفور الذي أمامك يستطيع أن يفعل ما تسمونه أنتم البشر معجزات، ولكنها عندنا مجرد أفعال عادية، لأن معجزتنا الوحيدة والنبيلة هي الحياة.. نعم الحياة، أنت ثق بي فقط واترك الباقي علي..
فلما استيقظ لم يجد العصفور، لكنه وجد نفسه طليقا يغني ويرى العشب لأول مرة بعينين جديدتين..
أخيرا جدا أعود إليك يا ساكن الشجرة، وصديق الطفولة، وابن الفضاء، بعد أن اغتسلت بمطر غنائك الأبدي، وخرجت من مقبرة الأفكار الطاعنة في الموت لأقول للسجن وداعا، ولما تبقى من هواء وماء نظيفين، وخبز حقيقي: مرحبا أيتها الحياة.. مرحبا أيها العصفور الكريم الذي علمني أن أطير متحررا من أصنام الفكر وأوهام العقل، وراميا بالقهر واليأس والمرض ورائي.