الثلاثة.. تربـح
د. نضال الصالح
الكشتبان، حسب موسوعة الأسديّ المقارنة عن حلب، كلمة مولّدة عن الفارسية، وفي أصلها مقطعان: أنكشت بمعنى أصبع، وبان بمعنى وقاية. وهي اسم لأداة من المعدن تُستخدمُ في الخياطة اليدوية على شكل قمع صغير يغطي أعلى البنصر عادة، ويدفع الخيّاطُ الإبرة به بعد أن يسند نهايتها على حفرة من حفره الصغيرة، ليتقي بذلك وخزها لأصبعه، كما يُستخدم اثنان منه في سبابتي اليمين واليسار للضرب على آلة القانون.
أمّا لعبة الكشتبان، فهي من ألعاب الخفّة، بل الاحتيال، التي كانت شائعة في غير مدينة سورية، وربّما غير مدينة عربية، وفيها يستخدم اللاعب ثلاثة كشتبانات أو كشاتبين حسب صيغة الجمع في الملفوظ الشعبيّ وحصاة يضعها على طاولة صغيرة أمامه، ويقوم بتحريك الحصاة من تحت كشتبان إلى آخر بسرعة، ويطلب إلى المراهنين أمامه بمبالغ محددة من المال معرفة موضعها تحت أيّ من الثلاثة، ثمّ ما إنْ يشير المراهن إلى الموضع، حتى يكشف المحتال عنه، وحتى يرفع الغطاء عن سواه بخفّة وسرعة، فتظهر الحصاة تحته، ثمّ يدسّ المبلغ في جيبه وهو يستطلع المكان حوله استعداداً للنجاة بنفسه عندما تدهمه جهة ما متلبساً بالاحتيال على الناس.
في الواقع تغصّ الحياة بالكشتبنجية، حسب التعبير الشعبي للاعبي الكشتبان، وبالمعنى الدالّ على ثقافة اللعبة لا اللعبة نفسها، وليست الحياة الثقافية بمنأى عن ذلك، فثمّة غير قليل ممّن يزعمون نسبتهم إلى الثقافة كشتبنجية بامتياز، وغير قليل منهم أيضاً يمكن وصفه بشيخ الكار في هذا المجال، لأنّه يتعامل مع كلّ شيء حوله بلسان حال الكشتنبجي، بل بلازمته وهو يمارس احتياله على الناس: “هادا بوش، وهادا بوش، وهادا ملان” طمعاً فيما ليس له، وشهوةً موصولة بشهوات لحضور زائف هنا وبرْق خُلّب هناك.
وفي الحكاية التي لو كُتبت بالإبر على آماق البصر لكانت عبرة لمن اعتبر حسب السيدة شهرزاد في حكايات ألف ليلة وليلة، أو لو شاءَ أحدٌ أن يؤلّف كتاباً بعنوان: “كيف تتعلّم الاحتيال في خمسة أيّام” لوجدَ في “بطل” الحكاية أهمّ المصادر والمراجع لفنّ الاحتيال، ولسواه من فنون النهب المنظم، والافتراء، والدسائس، والمكائد، ولو شاءت موسوعة غينيس تدوين بعضٍ من أرقامه القياسية في هذه الفنون لاحتاجت إلى مجلد خاص به. أمّا الحكاية، فهي أنّ “البطل” العاضّ بأنيابه، ليله ونهاره، وصحوه وسكره، على المثل الشعبي المصري القائل: “الرزق يحبّ الخفّية” لم يرق له مغادرة البناء الذي اغتصبه من دون علامة جديدة في سجلّه الحافل بالكشتبنة، فزعمَ، كعادته، أنّ مرجعاً كبيراً يريد بقاءه في البيت، ثمّ أرسل إلى مرجع أصغر كتاباً يطلب فيه تعديل نظام السكن مدعياً أنّ هذا هو قرار السكّان الذين اعترض الأغلب الأعم منهم على التعديل باستثناء اثنين هو ثالثهما، ومتضاحكاً في سرّه ومردداً: الثلاثة تربح. وبعد، فما مِن ريب في أنّ الكشتبنة ليست وقفاً على مجازات الرجال، فثمة مجازات نساء أيضاً، وفي الحقل نفسه، أكثر مهارة من أمهر كشتبنجيّ، وذلك ما قد يكون موضوع مقال قادم.