بالعلم.. لا بالستريوتايب!.
“البعث الأسبوعية” د. مهدي دخل الله
انتقدوا أمريكا بالعلم.. لا بالستريوتايب (الموقف المؤدلج المسبق)..
لا تقرؤوا البحوث ذات الطابع الماركسي أو الاشتراكي أو التحرري عن الأوضاع الاجتماعية العامة في الدولة الأقوى، الولايات المتحدة الأمريكية. اقرؤوا البحوث الجادة التي يضعها باحثون أمريكيون، منهم من يحمل جائزة نوبل بالاقتصاد، فهؤلاء لا يمكن أن يكونوا متحاملين أو مؤدلجين ضد النظام الاجتماعي – الاقتصادي، ومن ثم السياسي، الأمريكي.
اقرؤوا، على سبيل المثال، ليستر ثورو وجون غالبرايت، وغيرهم ممن في يدهم مبضع علمي يُشّرحون به “الجسد الأمريكي” ويفضحون تناقضات لا يحتملها المنطق، أساسها الازدياد الهائل في الفجوة بين الفقراء والطبقة الوسطى من جهة والطغمة المالية من جهة أخرى.
يعرض ثورو في كتابه الشهير (مستقبل الرأسمالية) إحصائيات دقيقة حول هذا الموضوع، ويحذر من مخاطره. يشرح ثورو الفجوة المتزايدة في الدخل بين 95% من الشعب والخمسة بالمئة أعضاء الطغمة. الباحث الألماني أولريش شيفر يحلل في كتابه (انهيار الرأسمالية) أسباب إخفاق «اقتصاد السوق الحرة» في بناء مجتمع مستقر. ويقدم دراسة موضوعية مدعومة بالإحصائيات حول هذا الموضوع.
لكن المدهش أن واحداً من أهم أعضاء «الطغمة المالية»، وهو جورج سوروس نفسه، يشرح في كتابه (أوهام التفوق الأمريكي) الأزمة البنيوية للمجتمع الأمريكي.. بل إن ترامب نفسه يعترف بضعف بلده عندما يرفع شعار «لنجعل أمريكا قوية من جديد».. واضح أن هذا يعني أن أمريكا الآن ضعيفة.
تلاحظون – هنا – أنني لم أتطرق الى آراء الباحث الأمريكي تشومسكي لأنها آراء مؤدلجة ضد النظام الأمريكي حتى لا أتهم بالموقف المسبق (الستريوتايب)، وإنما اعتمدت على آراء باحثين من صلب النظام الاجتماعي – الاقتصادي الأمريكي نفسه.
ما دفعني لكتابة هذا النص هو مظاهر «الحالة الإنتخابية» في الولايات المتحدة: شتائم مقززة وعلنية يتبادلها ترامب وبايدن، وتعابير سوقية لا يستخدمها سوى سكيرة الحانات الرخيصة، مظاهرات وتجمعات مسلحة وتوتر اجتماعي تخجل منه دولة متخلفة صغيرة في أقصى بقاع الأرض..
هناك من يقول أن أمريكا كانت دائماً هكذا. فالرئيس ريتشاد نيكسون، مثلاً، كان يستخدم الشتائم البذيئة في خطابه اليومي باستمرار، لكن لم تكن وسائل الإعلام متطورة في السبعينيات حتى تنقل الى غرفنا «الغسيل الوسخ» مباشرة..
قد يكون ذلك صحيحاً.. لكن المهم أن هناك «غسيلاً وسخاً» على أية حال. المهم في الأمر أن الدولة الأقوى في العالم لديها إشكالات بنيوية وأزمات واضحة، وهذا ينتقل، بطبيعة الأشياء، الى مساحات العالم كافة.
هذا التحليل الموضوعي لا يعني أن العالم على وشك الانتهاء من الهيمنة الأمريكية. بالتأكيد لا. إنه فقط إشارة الى مرض «العملاق الأمريكي» ومشاكله الصعبة. ويبدو أن أمريكا ستبقى في العقود القليلة القادمة الدولة الأقوى.. لكن قوتها أضحت دون أفق تاريخي طويل..