مجلة البعث الأسبوعية

لمن يقرع العمال أجراسهم؟ ما مبرر استبعاد نقابات العمال من اللجان المنبثقة من مجلس الوزراء؟

“البعث الأسبوعية” ــ علي عبود
يعيب البعض على العمال أنهم يكررون المطالب في اجتماعاتهم الدورية على مدى السنوات، وهذا صحيح! لكن، لماذا تتكرر مطالب العمال ولا سيما المتعلق منها بتحسين الدخل وإصلاح الإدارة وتحديث القطاع العام ودعم القطاعات الإنتاجية؟
ما من مؤتمر عام للعمال إلا وحرص جميع رؤساء الحكومات على حضوره للرد على الأسئلة المتكررة، بإجابات تتكرر في كل الاجتماعات، ولا تتضمن أي جديد؛ والحال في المؤتمر الأخير لاتحاد العمال لم يتغير: مطالب وأسئلة متكررة، وإجابات حكومية متكررة ولا تخلو من وعود وكلام معسول. وأمام هذا الواقع المستمر منذ عقدين من الزمن، على الأقل، نسأل: لمن يقرع العمال أجراسهم إن لم تصل أصواتها العالية إلى أي جهة حكومية؟!

الحكومة غير سعيدة بقرارتها
الملفت إن العمال والحكومة ــ أي حكومة ــ متفقان على أن الوضع المعيشي لملايين السوريين صعب جداً، لكن مطالب العمال ومقترحاتهم لا تجد صدى لها لدى الحكومة، والذرائع دائماً حاضرة. وتؤكد الحكومة لعمال سورية أنهم محور اهتمامها لكنها مرغمة على اتخاذ قرارات قاسية نتيجة الظروف القائمة، وهي غير سعيدة باتخاذ قرارات تؤثر سلباً على حياتهم المعيشية؛ والملفت أيضاً أن الظروف التي أرغمت الحكومات المتلاحقة، منذ تسعينيات القرن الماضي، على اتخاذ قرارات قاسية، وغير سعيدة بها، لم تتغير لصالح العمال حتى الآن؛ والملفت أيضاً وأيضا ًما كشفته الحكومة للعمال بأن “هناك تحسيناً للوضع المادي لذوي الدخل المحدود”.. ترى، أين هذا التحسن؟ وكيف، مع هذه الهبة غير المسبوقة لارتفاع أسعار السلع والخدمات؟
وزير التجارة أكد أن زيادة أسعار المازوت الصناعي أدت إلى رفع الأسعار في السوق بين 3 – 8%، ومع ذلك: من سيتحمل غير المواطن ارتفاع الأسعار بهذه النسبة؟ بل هل ستثبت الأسعار عند حدود 3 – 8%، مع مؤشرات عن عودة أسعار الفروج للارتفاع نتيجة لارتفاع أسعار العلف!

حمى الأسعار وصلت للرغيف
ما من جهة حكومية إلا وتحرص على التأكيد بأنها “لن تلغي الدعم عن أي من الخدمات التي تقدمها الدولة”، ولكننا لو راجعنا الاعتمادات المرصدة للدعم في الموازنات العامة للدولة سنجد أرقامها مرتفعة “ورقياً”، إلا أن قيمتها الفعلية تنقص عاماً بعد عام، إما بفعل تراجع القدرة الشرائية لليرة، أو بالرفع المتدرج للسلع والخدمات المدعومة، بما فيها الرغيف الذي ارتفعت أسعاره عدة مرات حلال العقدين الماضيين. وكانت الحكومة مهدت لرفع سعر الخبز بقولها للعمال في مؤتمرهم: “اشترينا العام الحالي 690 ألف طن من القمح، بسعر 280 دولاراً للطن الواحد، لأن الكميات التي نشتريها من المزارعين لا تكفي سوى شهر ونصف الشهر لإنتاج الخبز”.. وكان هذا القول مقدمة لرفع سعر الرغيف من جديد!
وقد حاول اتحاد العمال جاهداً انتزاع وعد أو تعهد من وزير التجارة الداخلية بأن حمىّ الأسعار لن تصيب الرغيف، لكنه أخفق لأن الوزير كان غامضاً بردوده، ولم يجزم بعدم رفع سعر الرغيف، وكل ما قاله للعمال: “المهم هو ضمان توفر ‏وجودة الرغيف، وأي قرار بخصوص زيادة أو تخفيض الأسعار ‏ليس قرار وزير، بل حكومة مجتمعة”، في حين أعلن رئيس الحكومة، بوضوح ما بعده وضوح: “قرارنا أن الرغيف خط أحمر، ولن يمس إلا في الحدود البسيطة!”.
وهذا ما حصل، فبعد أيام ارتفع سعر ربطة الخبز بنسبة بسيطة لا تتجاوز الـ 100%، أما الخبز السياحي فقد ارتفع بنسب عالية خلال الأشهر الماضية مع تدن كبير في مواصفاته رغم الأرباح الكبيرة التي يشفطها أصحاب الأفران الخاصة. وسيرتفع الخبز السياحي مجدداً، مع ارتفاع سعر الدقيق، ومعه سترتفع أسعار المعجنات والحلويات، والقائمة تطول، و.. تطول!!
نعم.. رفع السعر بمبلغ 50 ليرة للربطة ليس كبيراً للوهلة الأولى، والحكومة لاتزال تدعم ربطة الخبز بما لا يقل عن 500 ليرة على الأقل، لكن هذا الرفع سيقتطع من دخل الأسرة المحدود جداً، والتي تستهلك ربطتين في اليوم فقط (3 آلاف ليرة شهرياً)، ومثلها بالحد الأدنى لوسائل التنقل بالباصات أو السرافيس.. دون أي مقدمات، “شفط” رفع سعر سلعة واحدة، وخدمة واحدة، فقط، من دخل الأسرة 6000 ليرة كانت تنفقها على حاجات أساسية يومية؛ وإذا كانت الحكومة تعمل لتخفيف خسائرها لأن مواردها محدودة، فماذا ستفعل الأسرة التي تضاءلت فجأة مقدرتها الشرائية بنسب ليست بسيطة أبدا؟

ماذا تحتاج الأسرة السورية؟
كشف رئيس الحكومة أنه “تم الطلب من الوزارات كافة، تطوير نظام الحوافز في المؤسسات التابعة لها، وربط الأجر بالإنتاج، وفق طبيعة عمل كل مؤسسة، بما من شأنه تحسين متممات الرواتب”.. وربط الأجر بالإنتاج مشكلة قديمة نصت عليها إحدى مواد قانون العاملين السابق (عام 1985)، لكن لم تنفذها أي حكومة سابقة، ولم يعد لهذه المادة من وجود في قانون العاملين الجديد.
وبدلاً من الحديث عن ربط الأجر بالإنتاج، فإن الجهد يحب أن يتركز على تأمين دخل للأسرة يوفر الحد الأدنى لمستلزمات المعيشة. وبما أن الدستور نص على تأمين هذا الحد لكل مواطن سوري، فإن ما من حكومة سابقة أصدرت التشريعات التي تترجم التص الدستوري إلى واقع فعلي.. والسؤال الذي يشغل الجميع على الدوام هو: ما الدخل الذي يؤمن الحياة المعيشية الكريمة للأسرة السورية؟
اتحاد العمال أجاب على السؤال مراراً في تقاريره الاقتصادية، وها هو يؤكد مجدداً في مؤتمره الأخير “إنه نتيجة ارتفاع تكاليف الحياة بشكل غير مسبوق خلال سنوات الحرب العشر، باتت الأسرة المكونة من 5 أشخاص تحتاج لــ 600 ألف ليرة سورية لسد نفقات معيشتها، لأن الفجوة المعيشية أصبحت كبيرة بين الدخول والأسعار، حيث تراجعت القدرة الشرائية لأصحاب الدخل المحدود بنسبة كبيرة مقابل الارتفاعات الكبيرة في الأسعار”.
قد يبدو المبلغ كبيراً جداً يصعب على الحكومة تأمينه، فهل هذا صحيح؟
في العام 2001 صدرت دراسة عن القيادة القطرية لحزب البعث حول الدخل الذي تحتاجه الأسرة السورية لمتطلبات المعيشة اليومية باستثناء السكن، وخلصت إلى أن الفرد الواحد يحتاج إلى 3 آلاف ليرة شهرياً، أي أن الأسرة المكونة من خمسة أفراد كانت تحتاج إلى 15 ألف ليرة عام 2001، وفعلاً أقرت القيادة برنامجاً على مدى خمس سنوات لزيادة دخل الأسرة ليصل إلى 15 ألف ليرة.
كانت القوة الشرائية لمبلغ الـ 15 ألف ليرة تعادل 319 دولاراً، حسب السعر الرسمي، أما مبلغ الـ 600 ألف – حسب دراسة اتحاد العمال – فتعادل قوته الشرائية حالياً 480 دولاراً، حسب السعر الرسمي، أي أن الزيادة المطلوبة لدخل الأسرة – نظرياً – هي 161 دولاراً خلال 19 عاماً، أو 8,4 دولارات سنوياً.. فهل هذا كثير؟

أليات دعم المشاريع الإنتاجية
‎ومن الطبيعي أن تتركز مناقشات العمال على زيادة الإنتاج، من خلال إقلاع الشركات المتوقفة في القطاعين العام والخاص، وزيادة الاستثمارات في الصناعة والزراعة خاصة؛ وبما أن رد الحكومة المتكرر أنه “سيتم العمل على دعم ودفع أي منشأة صناعية أو زراعية تعمل في الوقت الحالي، إضافة للعمل على إعادة توظيف المنشآت المتوقفة نهائياً..”، فإن السؤال: هل رصدت الحكومة الاعتمادات التي تترجم أقوالها إلى أفعال؟ إن الموازنة العامة للدولة (2020) تشير إلى أن اعتمادات الإنفاق الاستثماري بالكاد تصل إلى 18% من الإنفاق الإجمالي، وهذا يعني إن اعتمادات الإنفاق الجاري أكبر بكثير من الإنفاق على الإنتاج.. فلماذا هذا البون الشاسع بين القول والفعل؟

لا شراكة للعمال في القرار الإقتصادي‏
لقد كان للعمال منذ ثمانينيات القرن الماضي حضورهم الفعال في الحياة الاقتصادية من خلال ممثليهم في المجالس العليا واللجان المشكلة من مجلس الوزراء، وكانوا ينظمون ندوات وورشات مهمة مخصصة لمناقشة مشاريع الري والإصلاح وتطوير القطاع العام، ويشاركون بصناعة القرار الاقتصادي، لكن هذا الدور بدأ يتقلص مع بداية صدور قانون الاستثمار عام 1991، إلى أن تلاشى مع حكومة 2003 – 2011، أي مع تطبيق نهج السوق الاقتصادي اللااجتماعي، وها هو رئيس الاتحاد العام لنقابات يعلن أمام رئيس الحكومة: “نريد أن يعاد الاعتبار لشراكتنا في القرار الاقتصادي”، وتساءل: “ماالمبرر لاستبعاد نقابات العمال من اللجان المنبثقة من مجلس الوزراء؟”.. طبعاً، الأمور ستكون مختلفة جذرياً بوجود العمال في اللجان الحكومية، وبخاصة المتعلق منها بإصلاح القطاع العام والإدارة والدعم ورفع الأسعار وتحسين الأوضاع المعيشية.. ترى هل ستستجيب الحكومة، وتبدأ بتفعيل دور العمال في لجانها الحكومية؟

الدمج
وبما أن الحكومة تعمل منذ مدة على عمليات دمج الشركات، وبخاصة الإنشائية، فقد طالب العمال بالتدقيق بهذه العمليات “لأن تجارب الدمج السابقة لم تكن منتجة!”، والقطاع الإنشائي مثال على ذلك، فقد أطاحت عمليت الدمج المتلاحقة بدور وفعالية هذا القطاع الذي بنى سورية الحديثة، كما عرفناها قي تسعينيات القرن الماضي، سورية المكتفية ذاتياً بلا قروض ولا ديون.
لقد كان القطاع الإنشائي يضم 17 شركة، يعمل بها أكثر من 120 ألف مهندس وفني وعامل يتقاضون أجوراً وحوافز مغرية تجعلهم يعملون على مدار الساعة دون كلل أو تذمر. ودون أي سبب معلن، بخلاف وهم استقطاب شركات مقاولة عربية وأجنبية، بدأت في تسعينات القرن الماضي – ورغم معارضة اتحاد العمال – عمليات “تقزيم” القطاع الإنشائي بتقليص عدد شركاته وعماله تحت عنوان “التوزع النوعي والجغرافي”، وقبلها تم إخضاعه لقانون العاملين بهدف خفض أجور وحوافز العاملين فيه، إلى أن تلاشى إلى عدد محدود من الشركات كادت أن تكون عبئاً على الاقتصاد، وكانت النتيجة أننا خسرنا قطاعنا الإنشائي الذي بنى سورية الحديثة، ولم تتمكن شركات التطوير العقاري أن تكون بديلاً عنه حتى الآن. وبالتالي، فإن عمليات الدمج لم تكن منتجة، ولا مفيدة، لا في شركات القطاع الإنشائي، ولا في مؤسسات حكومية أخرى.. وحتى دمج الوزارات لم يكن منتجاً – كالتموين بالاقتصاد – لأن المشكلة ليست بالدمج نفسه، وإنما بتفعيل دور الشركات والمؤسسات من خلال تحديثها وإصلاحها، لا تقزيمها وإنهائها.

الإصلاح الضريبي
ولطالما شكل الإصلاح الضريبي محوراً أساسياً في اجتماعات اتحاد العمال وتقاريرهم الاقتصادية، ومطلبهم المتكرر دائماً مكافحة التهرب الضريبي واسترجاع حقوق الدولة المنهوبة بفعل الفساد. وما من وزير للمالية، على مدى العقود الثلاثة الماضية، إلا وأكد أنه يعمل على إصلاح التشريعات الضريبية التي يعود أهمها إلى خمسينات القرن الماضي!! وكانت “أتمتة” الضريبة مشروعاً متكرراً مع كل وزير، ويعتبره المنطلق لتحسين الواردات وتحقيق العدالة.. والنتيجة: لا تحديث، ولا أتمتة!
وها هو وزير المالية يكشف للعمال جديداً: نعمل على موضوع أهم من الإصلاح الضريبي، وهو إصلاح المالية العامة للدولة، وإصلاح الإنفاق العام، ويتم ذلك من خلال الرقابة ووضع الضوابط القانونية.
ونحن نأمل أن تكون النتيجة مختلفة هذه المرة، ولكن ألا يتوجب تطبيق الأتمتة في مشروع إصلاح المالية العامة للدولة؟

بالمختصر المفيد
من الطبيعي أن يتصدر الواقع المعيشي الصعب وتدني الأجور قائمة المطالب العمالية، وليس بالضرورة أن يكون مقترح العمال بتأمين دخل للأسرة لا يقل عن 600 ألف ليرة شهرياً عن طريق زيادة الرواتب، وإنما بتأمين فرص عمل من خلال مشاريع صغيرة قادرة على تأمين مثل هذا الدخل، وأكثر، وهذا المجال لم تهتم به أي حكومة حتى الآن سوى بالأقوال.. دون أي أفعال!