ذاكرة الأمكنة
سلوى عباس
علاقة الإنسان بالمكان لا تقتصر على الجغرافيا فقط، بل بما يحمله من رائحته وقيمه، وما يختزنه من ذاكرة وأحداث لأشخاص منهم من غادر الحياة ومنهم من مازال يعيش معنا متعة حنيننا، فنحن نألف الأماكن ونتعلّق بها بقدر ما تنسجم أرواحنا معها وتربطنا برابط ربما لا نراه لكننا نشعر بقوته وهو يشدنا إليها، ونتألم عندما نغادرها مهما كانت هذه الأماكن متواضعة وبسيطة تظل في ذاكرتنا تملؤنا رائحتها وتعطّر ذكرياتنا، فنتشبث بما بقي لنا منها حتى لا تغادر ذاكرتنا. فالناس جميعاً يتعلّقون بالبيت الأول الذي ضم طفولتهم وجمعهم مع أرواح شاركتهم أفراحهم وأحزانهم، إذ إن البيوت كالناس هنالك ما تحبه من اللحظة الأولى، وهناك مالا تحبه ولو عشت فيه لسنوات طويلة، فثمة بيوت تفتح لك قلبها منذ اللحظة الأولى التي تطأ عتبة بابها، وبيوت أخرى تبقى معتمة وغريبة وغامضة وتنقل إليك الشعور بالغربة عنها، والأماكن تحمل رائحة الحنين بكل تفاصيلها، تحضر الصور والحكايات إلى الوجدان، لنستعيد عبرها محطات كثيرة بكل أحداثها ودفئها وحنينها التي يستدعيها العقل والروح من آن إلى آخر، وبالمقابل ربما بعض البيوت تكون الذكريات فيها عابرة ولحظية لا ترسخ في الوجدان مهما طال مكوثنا فيها، وكثيرة المنازل التي نسكنها ونختبر تفاصيل أيامنا فيها وعندما نغادرها لا تترك أي أثر وكأن وجودنا فيها لم يتجاوز اللحظات.
هناك بيوت تسكننا قبل أن نسكنها، وتجربتي مع هذه الحالة لا تتوافق مع مقولة الشاعر أبي تمام في الحنين لأول منزل، لأن حنيني ليس لأول منزل فقط، بل أحن لأماكن كثيرة، فالمكان الأول لازال حاضراً كخيال في ذاكرتي حيث لم أكن أدرك بعد أهمية الارتباط بالمكان، لكنه لا يغادرني بكل التفاصيل التي عشتها فيه حتى الآن، حتى أنني رغم صغر سني حينها مازلت أذكر توزّع غرفه والحديقة المحيطة به بما تضمه من ورود ومزروعات، وحنيني الثاني لمنزل العائلة، ففي مدينة حالمة بالحب والسلام ثمة مكان لا تتجاوز مساحته الـ مئتي متر تشغله أسرة عشت معها أجمل أيام حياتي كيفما اتجهت وأينما تحرّكت أعرف ذلك الموقع، لا أضيع بوصلتي، فهو يشدني إليه مهما ابتعدت، هذا المكان شكّل محور ارتباطي بهذه المدينة التي اختزنت في ذاكرتها طفولتي وأحلامي ونبضي الأول في الحياة، وأينعت بين يديها ورود روحي تعنيني بكل تفاصيلها، لكن ابتعادي عنها إلى مدينة أخرى جعلني أختبر أكثر من حياة في أكثر من بيت، ولو أن البيت الذي بقي في وجداني هو البيت الذي سكنته أول مجيئي لمدينة دمشق، التي أسرتني كما أسرت كثيرين من الوافدين إليها، هذا البيت الذي مازلت حتى الآن لا أستطيع أن أمر أمامه دون أن أتطلع إليه، وبعده أصبحت كل البيوت عابرة.
لكل إنسان أساسيات في الحياة يتعلّق بها، وتصبح مع مرورِ الزمن ذكريات عالقة في عمق الذاكرة، فلا تكاد تغادرُ عقلَ الإنسان ما عاش من عمر، ولعل المنزل الذي ننشأ فيه ونترعرع في زواياه هو أكثر من يملك ذكريات حزينة وسعيدة في خاطرنا وذاكرتنا، ويبقى الارتباط الأول لكل إنسان بالمنزل الذي يعيش فيه ويكبر تحت سقفه وبين جدرانه، وبعدها تأخذه الحياة في مسارب وأماكن تشكل له ذكريات وحنين آخر، أماكن تشهد على أحلامه وطموحاته، خيباته وانكساراته، وبدايات الأحلام التي تبدأ من جديد دائماً.