“لا تكن أي شيء”.. مفردات الحب تتراقص على أوزان التفعيلة وتقطيعاتها
“الحزن حالي ولا حال ينافسه/ ففعله حاكم في دولة الروح”، إحدى القصائد المعنونة “بحالي”، والتي تختبئ ضمن دفتي ديوان “لا تكن أي شيء” للشاعر محمد كنايسي، والذي يتسم بالتقيد بالوحدة الفنية لعوالم الحب وفضاءاته مع متفرقات إنسانية، وقد حمل تنويعات من حيث الشكل الشعري لسمات القصيدة المتوسطة والقصيرة والقصيرة جداً، مركزاً على أوزان التفعيلة وتقطيعاتها، راسماً بالأحرف تشكيلاً شعرياً يتمايل على وقع الجرس الموسيقي للقصيدة.
جاء “لا تكن أي شيء” الصادر عن وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب- بعد ديوانه السابق “ديوك الغريب” باختلاف بالمسار الشعري من حيث الوحدة بالمعنى، والعناوين الشائقة التي ارتبط بعضها بروح القصيدة بفنية مباشرة، وأخرى اعتمدت على التورية بالإيحاء بالمعنى القريب ليتضح المعنى البعيد بعد التأمل بفضاءات القصيدة، بينما كان “ديوك الغريب” أشبه بيوميات تخلو من العناوين، وكل قصيدة تعبّر عن حالة شعورية مختلفة.
الكمنجة والناي
لم تكن الموسيقا حاضرة في نغم القصيدة فقط، وإنما في مفرداتها المرتبطة بالحالة الذاتية التي عبّرت عن الضياع الروحي، وانسكاب الآهات مع مقامات ألحان الناي في قصيدة “ناي”:
“ناي/ قلبي أنا لو تعرفين قصيدة/ في بحرها تتسابق الآلام/ قلبي أنا ناي أضاع ثقوبه/ وتشردت في صمته الأنغام”.
وفي قصيدة “صوت” لجأ إلى دلالات الكمنجة بألحانها الممتدة والمتدرجة والمتوقفة بالقفلة إلى بحر الذكريات والحنين، إلى ذاك الصوت البعيد المختبئ وراء الغيوم:
“صوت/ صوت من هذا الذي/ يجعلني أبكي سعيداً/ كقمر/ صوت أمي/ أم كمنجات المطر/ كقمر”.
وبقيت الكمنجة حاضرة بمقاربات وجدانية مع غيوم الخريف وتساقط أوراقه التي تدق على أبواب الذاكرة، وتتهادى في ممراتها رويداً رويداً في قصيدة الكمنجة:
“الكمنجة/ قوس الخريف/ وبحته/ والكمنجة/ أوتار غيمته”.
ليفاجئ القارئ في قفلة القصيدة بحقيقة الكمنجة، بوحشة قلبه وحزنه، بلحن انكساره، ويعتمد على الاستعارة باستخدامه مفردة ضلوع:
“والكمنجة/ قلبي الذي/ انكسرت/ كضلوع السماء/ كمنجته”.
غربة روحية
هيمنت روح الاغتراب الساكنة قلب الشاعر الهائمة إلى روح المكان، إلى القيروان، إلى أهلها وأسوارها في قصيدة “غربة”، كما في بعض صفحات ديوك الغريب، إلا أن الشاعر لم يصرح في قصيدة غربة إلى المكان، أو إلى شيء من جزئياته، إذ قصد الغربة النفسية والوحشة الذاتية التي يشعر بها الإنسان حتى لو أحاط به الزحام، ويبدؤها بالنفي والحيرة، ويصفها بالخرساء وعدم القدرة على النطق:
“لست بحراً فلماذا/ يسكن الغرقى سمائي/ لست خمراً فلماذا/ يشرب الناس دمائي/ أنا صوت الغربة الخرساء/ في ليل الشتاء/ لا ضياع كضياعي/ لا شقاء كشقائي”.
الحب والطبيعة
شغل الحب بصوره المتعددة بين لقاء وتواصل وفراق وعذاب وحنين صوراً متباينة بين صفحات الديوان، فنراه يلجأ تارة إلى التصريح والمباشرة، وتارة إلى التضمين والإدغام، وفي قصيدة “أحبك” يعترف بأن الحب عصي على الفهم، وأنه معجزة “فاقت المعجزات”، ويتساءل ويستغرب كيف وقع بالغرام؟ وكيف يطير بقوة سحره فلا يجد مساحة لمشاعره تسمح بها الكلمات:
“لست أدري لماذا/ ولا كيف/ يجعلني حبها/ أجمل الكائنات/ أحبك/ آه أحبك/ ما أضيق الكلمات”.
لا يوجد أجمل من الإحساس بأن المحبوب هو الوطن، هو الروح وشاطئ الأمان حتى لو كانت النهاية مؤلمة، كما في قصيدة “وطن”:
“ما بين نهديك بحر كم ألوذ به/ من غربة عصفت بالروح والبدن/ وليس أجمل من أعماقه وطناً/ حتى وإن أغرقت أمواجه سفني”.
مفاجأة العناوين
يتكرر المعنى بصور وتشابيه مختلفة فيلجأ إلى الكوخ كناية عن الدفء والسكينة في قصيدة تحمل معنى مغايراً، ويبدو ذكاء الشاعر في توظيفه لإيضاح المعنى في قصيدة كذبة:
“كل النساء أمام نهدك كذبة/ لا سكر فيها ينطق الأوزانا/ كل القصور أمام كوخك لعبة/ لا دفء فيها يطلق الأبدانا”.
ويكرر مفاجأة العناوين التي تحرّض القارئ على تخيّل مشهد شعري محدد، إلا أن القصيدة تحمل معاني بعيدة كل البعد عن المعنى القريب لدلالة المفردة كما في قصيدة شحاذ:
“هي ريشة/ وأنا وتر/ فإذا جفتني/ غاب صوتي/ والمطر/ ووقفت كالشحاذ/ في ركن انكساري/ أنتظر/ وجع الفراق”.
ويقارب في قصيدة انتظار ما رمى إليه الشاعر أبو صخر الهذلي:
“عجبت لسعي الدهر بيني وبينها/ فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر”.
فالشاعر كنايسي يصف حالة الانتظار والسكون بعد أن خمدت جذوة الحب وضاع السبيل، فيستغرب من انتظار الغروب والعيون والبحر:
“بحرنا ينتظر/ ماؤه/ ملحه/ رمله/ صخره/ كله ينتظر”.
معتمداً على تتالي المفردة على وزن فعلة بأسلوب التقطيع والتشكيل الحروفي، ليؤخر المعنى المراد إلى القفلة:
“غير أنّا/ أضعنا إليه/ على عادة التعساء/ طريق السفر”.
ويقفل كل الصور بقصيدة جحيم التي تجسد آلام الفقد والرحيل، ويقارب فيها بين الأنثى والنجمة التي تضيء الحياة كما تضيء النجمة السماء:
“كل البيوت بلا يديك جحيم/ كل الأسرّة ظهرها مقصوم/ يا نجمة كانت تنام بجانبي لم تبق بعدك للعناق نجوم”.
إنسانيات
وينتقد الشاعر بعض المظاهر الاجتماعية التي تترك آثارها على الأسرة والمجتمع بشكل غير مباشر مثل قصيدة العيد التي ينتقد فيها القطيعة وعدم التواصل بين الأرحام والأصدقاء، مستغرباً من واقع العيد وما آلت إليه الأحوال بارتباطه فقط بالنحر:
“يا عيد ما لك لا ترى أو تسمع/ إلا إذا ذبحوا الخراف وقطّعوا”.
ونلمح مقاربة من نزار قباني حينما قال في قصيدة إلى تلميذة :
“الحب ليس رواية شرقية/ بختامها يتزوج الأبطال/ لكنه الإبحار دون سفينة/ وشعورنا أن الوصول محال”.
مع ما قاله كنايسي في قصيدة “إبحار” فبدلاً من أن يكون الحب دون سفينة كان “الشعر”:
“الشعر إبحار بدون سفينة/ وتوغل في غابة المجهول”.
وفي قصيدة” غياب” يصرح الشاعر عن ارتباطه بالشعر الذي يسيطر على كيانه، ويخفف عنه آلام الغربة والحنين، فيومئ إليه بالورد والصوت والعطر مستخدماً أسلوب النداء:
“يا أيها العطر الذي أدمنته/ كيف اختفيت اليوم من نسماتي/ فخنقت قلبي وافترست أناملي/ وتركتني ذاتي تمزق ذاتي”.
من قصص القرآن الكريم
ومن الأساليب الشعرية التي اتبعها الشاعر في الديوان القصة الشعرية التي تسرد حكايات تطرقت إلى متفرقات تنضوي ضمن إطار الإنسانيات مثل قصيدة كلمة التي تصف حكاية فتاة يائسة تعجز عن شق الطريق للوصول إلى الصنبور فيأتي من يأخذ الصنبور من يدها:
“خذ من يدها الدلو/ وشُق طريقاً للصنبور/ واملأه تماماً/ ثم أعده إليها/ ستزقزق عيناها/ بالفرح الأخضر/ كالعصفور/ وستترك ضحكتها/ بين يديك الفارغتين/ وتمضي”.
وهي مستمدة من روح قصص القرآن الكريم “سورة القصص”، وتبقى إيحاءات عنوان الديوان “لاتكن أي شيء” التي حملت عنوان إحدى قصائده تنبيهاً أو تحذيراً من الضعف، وطاقة دافعة للتجاوز ومواجهة كل الصعوبات والأزمات:
“لتكون/ وتشعر أنك حي/ لا تكن أي شيء”.
ملده شويكاني