الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

الثلج..!

حسن حميد

أعترف، أنني مدين للأدب الروسي العظيم الذي علَّمني الكثير من أجل أن أكتب نصاً أدبياً قليلة عيوبه، جليلة موضوعته، لافتة للانتباه صياغاته. فقد تعلمت من بوشكين (1799 ـ 1837)، الذي لم يعش طويلاً بسبب المبارزة الموحشة التي دُفع إليها، كيف يكتب الكاتب نصه وكأنه يتنفس، أي بالسهولة التامة، والشغف التام، والحضور الأتم، كي يقرأ الناس النص وكأنهم يتنفسون أيضاً، أو كأنهم يمشون في الحقول أو شوارع المدينة أو يتنزهون في قارب نهري. بوشكين كتب شعره ونثره، كما تقول رسائله لأصدقائه، بهذه السهولة، وكان يسأل عن صعوبات قراءة نصه، فإن لم يجدها، أو لم يصرح بها أحد من قرائه القريبين منه، يهمس لذاته بكلمات الرضا. لم أشعر بأي صعوبة في قراءة نصوص بوشكين على اختلافها شعراً ونثراً، الصعوبة التي عرفتها هي صعوبة آتية من الترجمة والفارق بين مترجم يمتلك أدواته وآخر تفلّتت منه بعض الأدوات. لقد علّمني الأدب الروسي أموراً كثيرة، ولعل في طالعها اختيار الموضوع الذي لا يخلو من نبالة، أي الموضوع الذي يهمّ الناس، ويتحيد ما هو خاص وآني وغرضي في وقت واحد، ثم اختيار طريقة الكتابة المناسبة، والانتهاء من النص حين يرتطم بخاتمته الطبيعية.

أقول هذا لأنني قرأت قصة لكاتب روسي هو قسطنطين باوستوفسكي (1892 ـ 1968) عنوانها الثلج تتحدث القصة عن أسرة تتهجر من موسكو، مؤلفة من مغنية شابة وابنتها ومربية عجوز، وتسكن في بيت (ملك للدولة) مع عجوز مريض يرحل بعد شهر واحد من مجيء هذه الأسرة، لهذا العجوز وهو بحار سابق، ابن ضابط يعمل في القوات الروسية البحرية. يصاب هذا الضابط بجروح لم تكن خطيرة، يرسل رسائل إلى والده، وهو لا يعرف أنه رحل، يقول له إنه أصيب في المعركة، وهو يتعافى، وسيأتي إلى زيارته، وعليه ألا يقلق لأنه بخير، ويسأله عن البيانو إن كان قد أصلحه، وعن جرس البيت إن عاد إلى ضجيجه المحبب، وعن جرة الماء إن كان ما زال يملؤها من ماء البئر، وعن الشموع ما إن كان بقي منها شيء، وقد جاء بها من لينينغراد، ويخبره أنه اشتاق لكل شيء في البيت، وأنه كان يحسُّ وهو داخل المعركة أنه لا يدافع عن روسيا كلها فحسب، وإنما يدافع عن بيته، والحديقة، والبئر، والبيانو، والشموع أيضاً.

وحين يأتي الابن الضابط لزيارة والده، يخبره ناظر المحطة أن والده توفي، وأنه ينصحه ألا يذهب إلى بيتهم، لكن الضابط الابن يذهب فيجد المرأة الشابة، وابنتها الصغيرة، والمربية، ويجد أن البيانو تمت دوزنته، وجرس الباب عاد إلى ضجيجه، وأن الشموع متقدة، وأن الجرة ملأى بماء البئر، وأن الثلج يسوّر البيت والحديقة. فتأخذه إلى قبر والده، ثم تعود به لكي يرتاح، تعزف له على البيانو، والشموع تنير المكان، وتسهر الليل لكي توقظه من أجل أن يعود إلى الميدان، تصطحبه إلى المحطة، وهي تقول له، أنا رأيتك من قبل لكن لا أدري أين، ويقول لها وأنا رأيتك من قبل ولكن لا أدري أين. وقبل أن يصعد إلى القطار تطلب منه أن يراسلها، ولذلك، ما إن يصل إلى ميدان الحرب، حتى يكتب إليها قائلاً إنه تذكّر، فقد رآها في منطقة القرم. وحالما تقرأ هي الرسالة تقول: أنا لم أذهب إلى القرم طوال حياتي، ولكن ربما كان صادقاً!

قصة محتشدة بالأحاسيس، والتفاصيل الدقيقة، وكلها لا غاية لها سوى أن تقوي الروحان إحداهما الأخرى.. لأن الحياة الجميلة ستأتي.. ولا غذاء لها سوى هذه الأحاسيس النبيلة.

Hasanhamid55@yahoo.com