“المهجّرون” بين إرادة دمشق وعقبات واشنطن
أحمد حسن
غداً سنكون، في دمشق، أمام مشهد قد يبدو غريباً للبعض لكنه طبيعي للغاية للعارفين بدور بعض الدول الكبرى في تأجيج نيران الحرب الدائرة في سورية وعليها أولاً، وفي إطالة أمدها وتعقيد حلّها ثانياً، بهدف تحقيق مطلبهم الرئيس وهو الإركاع والاستتباع.
غرابة المشهد تتمثّل بأن الدول التي شنّفت آذان العالم تباكياً على المهجّرين السوريين ومطالبة بعودتهم لبلادهم، سواء لدوافع إنسانية كما ادّعى بعضها، أو خشية وخوفاً، كما قال بعضها الآخر، على أمنها من انفجار “لغمهم” وقلقاً على اقتصادها من كلفة إقامتهم – وهي التي “شحذت”، حرفياً، مليارات الدولارات عليهم – لكن هذه الدول ذاتها، وما إن حانت ساعة الحقيقة، حتى أعلنت مقاطعتها، أو حضورها بوفد منخفض التمثيل – ما يوازي الغياب الفعلي – عن مؤتمر تستضيفه دمشق، للبحث في كيفية إنضاج الظروف الموضوعية والذاتية لإعادة هؤلاء المهجّرين إلى بلادهم والنظر في الإمكانات الفعلية لتعزيزها، والموانع لتذليلها، وبالتالي وضع آلية تنفيذية مشتركة بينها -باعتبارها الدولة المعنية باستعادة مواطنيها- وبين الدول المضيفة لتأمين العودة المرتجاة.
بيد أن وجه الغرابة في ما سبق لن يلبث أن ينجلي عندما نعرف أن أوامر المقاطعة صدرت من واشنطن ونقلها للأتباع مبعوثها إلى سورية “جيمس جيفري”، ثم ردّدها المندوب الفرنسي في الأمم المتحدة لأن بلاده “تعارض أي محاولة لتسييس موضوع عودة اللاجئين”، دون أن يتساءل ما يسمّى بـ”المجتمع الدولي”، الذي رضخ لها بأغلبيته، عن صور التسييس في انعقاد مؤتمر عن المهجّرين السوريين في عاصمة بلادهم للبحث عن، وفي، سُبل عودتهم إليها؟!، وفي هذا السياق يمكن لفت نظر كل من المبعوث الأمريكي والمندوب الفرنسي، ومن خلفهما، إلى صورة من صور التسييس الحقيقي لهذا الموضوع وتتمثّل بما كشفه وزير الخارجية اللبناني السابق حين أعلن أن إبقاء المهجّرين السوريين في لبنان كان أحد المطالب الأميركية التي عرضت عليه كمقايضة أو ثمن سياسي لعدم وضعه تحت سيف العقوبات الاقتصادية الجائرة.
إذاً دعوة واشنطن لمقاطعة المؤتمر هي، مع التأكيد على عدم أخلاقيتها، أمر منتظر منها، وبها ختم “جيفري”، مهمته في سورية قبل أن يستقيل من منصبه مؤخراً، بعد أن ساهم مساهمة فعالة في تنفيذ سياسة بلاده باستمرار حملة العقوبات الاقتصادية عبر “قانون قيصر” والضغوطات الخارجية، والتواصل مع الدول العربية والأوروبية لمنع التطبيع مع دمشق، وتقديم الدعم للانفصاليين في شمال شرقي سورية، وللاحتلال التركي في الشمال الغربي منها، كما لـ “إسرائيل” في عدوانها المتواصل على الأراضي السورية، وكل ذلك – مما يسميه جيفري” بـ”حملة الضغط الأقصى” على دمشق – يهدف، كما يقول الرجل لتحقيق سلسلة أهداف، منها، وهنا المفارقة الكبرى، توفير ظروف لعودة المهجّرين والنازحين..!!!، متجاهلاً أن هذه “الحملة” الجائرة هي السبب الرئيس المانع لخلق هذه “الظروف” التي يتشدّق بضرورة توفيرها.
والحال فإن مؤتمر الغد وما يحيط به من مقاطعة البعض، وتخفيض البعض الآخر لنوعية حضوره، بهدف إفشاله، يؤكّد مرة جديدة أن المهجّرين ليسوا إلا ورقة ابتزاز سياسيّ لدى البعض، مثل واشنطن التي ترفع قميصهم الإنساني في الأمم المتحدة ليل نهار، لكنها في الحقيقة تدّخرهم وتعوّل عليهم في الانتخابات القادمة، والرئاسية منها تحديداً – متناسية صورتهم في الانتخابات الماضية وهم يتقاطرون للتصويت لخيار الدولة السورية -، وورقة ابتزاز ماليّ لدى البعض الذي “شحذ” عليهم بالمعنى الحرفي للكلمة مليارات الدولارات، ومنهم، للأسف، بعض دول الجوار العربي، وورقة ابتزاز سياسيّ وماليّ معاً لدولة مثل تركيا تهدّد، وتبتز، بهم أوروبا تارة وتستثمر بدمائهم، كمرتزقة، تارة أخرى في مشروع فتوحات السلطان الجديد.
لكن دمشق التي “قلّبت النظر، كما يقول مارك توين، في رفات أهالي ألف إمبراطورية، وستشهد أيضاً قبور ألف إمبراطورية أخرى قبل أن تفنى”، تعرف، وهي المعنيّة أولاً بأبنائها، أن المهجرين قضيتها الأولى، إنسانياً ووطنياً، وبذلك فهي ستقطع غداً الخطوة الأولى في مسار طويل مليء بالعقبات الفعلية والمزاودات الكلامية، لكنه يمتد باتجاه واحد: للأمام فقط لا غير.