تعليق على التعليق!؟
د. نهلة عيسى
تتعاظم غربتنا يوماً بعد يوم، وتزداد توحشاً، لدرجة الإحساس بأننا بلا أحد، وأن وطننا “ربما” سافر واغترب، وتاريخنا هاجر، ووهمنا أننا أبناء أول أبجدية رحل، وذاك الغرور بأن لا أحد مثلنا!؟ وقد أثبتت الأيام أن لا أحد مثلنا حقاً، سلباً وإيجاباً، ولكن المفزع كان حجم ما كنا نضمره من قبح، نحاول الآن تبريره “بالتغرير”، والتغرير هو الترقيع، والتستر على ذلك، بل والتآلف معه على أنه الوضع الطبيعي، في ظل حقيقة وجودية بأننا محكومون بغربة الموت منذ لحظة الولادة، وأن حياتنا مجرد محطة انتظار لموت لابد قادم، فلماذا نرتدي الكفن لمجرد ألا نعترف بأننا في حربنا كنا العدو والصديق، والخصم والحكم، وكل من شارك في قتلنا كان يتماهى مع فعلنا!؟.
وإذا كان صراع الوجود البيولوجي من أجل الغذاء والكساء والصحة والستر، يستنفذ وعينا الآن، ويشغلنا عن صراعنا مع غموض ما يجري وجرى وفحواه؟، وإبهام المسؤولية المتربص بالمشارك والمحايد والبين بين، والمنتصر والمهزوم معاً، وما دام لا مفر من المكاشفة ذات يوم سواء رضينا أم أبينا، فما الذي يعيق رفضنا أن نموت مرتين، مرة بذلك الموت المكتوب والمحتوم منذ آدم وحواء، ومرة بالاستسلام والقبول البائس بالأمر الواقع، لأنه يعفينا، والرضا المهين باعتبار ما يجري لنا وبنا، عقاب إلهي على ذنوب لابد ارتكبناها!؟، أي رمي الحمول على القدر، والتسكع في زواريب الغيبيات، لنصبح مساكين مختبرين من رب حكيم، “وتيتي تيتي متل ما رحت جيتي”!، أي بعبارة عامية “سكروا من عندك لنسكر من عنا”، وتبقى الأمور مزرية على حالها إلى أبد الآبدين، لأن التعليق على ما حدث يفترض التعليق على المشانق، ويبدو أن الكثيرين منا لا مصلحة لهم في ذلك!؟.
صحيح، ما الذي يشل قدرتنا على مقاومة ذبحنا كل ثانية بقناعة أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان، والرضا بالعيش تحت رحمة النهابين والكذابين وبائعي أعمارنا بالثواني!؟ ونحن نراقب حياتنا، وقد غدت مقصلة تشبه النصب التذكاري في مبرر وعفوية الوجود، وكل واحد منا إما معلق عليها أو جلادها، أو متفرج مجبر ينتظر دوره، ويدعو ويأمل على كرهٍ، أن يكون الجلاد، متنازلاً طوعاً عن كل الحب والتعاطف الذي يستدعيه دور الضحية؟
صحيح، وأسأل لأني أعاني: متى خلعنا جلدنا وارتدينا جلود التماسيح والثعابين، وكيف تهنا عن الوطن وعن أنفسنا؟ ووقعنا في سيرك غريب عجيب، كأنما سقطنا سهواً من فيلم “كاوبوي أو زومبي” أميركي، وسط الأزقة الشعبية والأسواق العتيقة، والأحياء التي كانت ساكنة تحت كنف الجامع والكنيسة والمختار، والوهم الجميل بأن الياسمين في بيوتنا حارس وبواب، والغريب فعلاً، أن وهمنا يتحقق، وياسمين الشام رغم البشاعة المفرطة لسيركنا العجيب، لم يتوقّف لحظة عن التفتح، ولكن ليس حباً بنا، ولكن لأنه يجب أن يتفتح، فالجميل لا يستطيع إلا أن يكون جميلاً، والقبيح يلصق القبح بمشيئة الرب!؟.
صحيح، ما الذي يمنع السؤال في هذي البلاد، خاصة وأن وجه سورية المدور بالياسمين، والذي بقي لعشر سنين نقياً، متحدياً، مقاتلاً وعصياً، صامداً أمام الحصار والنار والقذائف، لم يركع للمقاطعة، باتت ترهبه أسلاك الكهرباء بلا نور، وصنابير المياه الجافة، والمدارس والمستشفيات بلا صيانة، وأخذت ترتسم علامات الهلع على قسماته ممن وضع السكين على رقبته، والمخيف أنه بدأ يفقد اليقين، لأن لا أحد يخبره إلى أين سيؤول بنا الطريق، بل لا أحد يخبره أن هناك في الأصل طريق!؟.
المشكلة أن الطريق إلى الفجر، ربما ليلٌ طويل، والدليل إليه هباش، أو نباش، أو جلاد، وفي أحسن الأحوال تاجر أوطان، أو عالم فاجر يطالب بإيقاف النار بعد أن التهمتنا النار، ويطالب بعودة المهجرين ويمنع عودتهم، ويطالب بالرخاء في سردايق العزاء المنصوبة في قلوبنا، فعلى ماذا سيوقفون النار، إذا كنا في النار!؟.