الهجرة في ظل جائحة كوفيد19
عناية ناصر
وجهت جائحة كوفيد19 ضربة لا لحالة الاقتصاد العالمي فحسب، ولكن لأهم أصوله، ألا وهو رأس المال البشري، فقد كان أحد أهم الآثار المترتبة على الجائحة، على وجه الخصوص، هو الصدمة الكبيرة الناجمة عن تدفقات الهجرة، وما يتصل بها من تدفق التحويلات.
وبهذا الشأن، كتب ياروسلاف ليسوفوليك، كبير الاقتصاديين في بنك التنمية الأوراسي، مقالاً قال فيه: “إن الانخفاض الحاد في حجم التحويلات يؤدي إلى تفاقم الاختلالات الملحوظة في الاقتصاد العالمي المرتبطة بالفجوة بين الاقتصادات المتقدمة والنامية، وهذا بدوره يتطلب إجراءات متضافرة من المجتمع العالمي، وعلى الأخص المنظمات الدولية متعددة الأطراف، وكذلك مؤسسات التنمية الإقليمية لإعطاء الأولوية لمساعدة تلك الاقتصادات التي تأثرت بهذه الآثار السلبية لوباء كوفيد19”.
من بين جميع قطاعات الاقتصاد العالمي، تسببت أزمة كوفيد19، والإغلاق الذي تلاها، في إحداث تأثير على حركة الأشخاص وتدفقات التحويلات المرتبطة بها، كما تأثرت بهذا الإغلاق تدفقات رأس المال عبر الحدود، وكذلك التجارة الدولية، وحركة البضائع عبر الحدود، ويمكن القول: إن آثار الإغلاق والحجر الصحي على الهجرة ورأس المال البشري كانت أكثر حدة.
ووفقاً لتقديرات البنك الدولي، سيشهد الاقتصاد العالمي انخفاضاً بنسبة 20٪ في حجم التحويلات، مع ملاحظة أن أهم الانخفاضات سجلت في أوروبا وآسيا الوسطى (27.5٪)، تليهما أفريقيا شبه الصحراوية (23.1٪)، وجنوب آسيا (22.1٪)، والشرق الأوسط وشمال أفريقيا (19.6٪).
وتشمل هذه الانخفاضات حالات أشد انخفاضاً لعدد من الدول مثل لاووس التي من المتوقع أن تسجل انخفاضاً بنسبة 50٪ في التحويلات، إن الانخفاض بهذا الحجم يجعله أكبر انخفاض في التحويلات المالية عبر العالم في التاريخ الحديث.
انخفاض التحويلات ليس الضربة الوحيدة التي تلقتها البلدان النامية خلال الأزمة الحالية، فمن الآثار الأخرى المترتبة على الإغلاق وعودة المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية ارتفاع معدلات البطالة، والضغط الذي تشكّله زيادة المساعدة الاجتماعية للتخفيف من حدة الفقر، وقد يؤدي انخفاض حركة اليد العاملة وسوق العمل المتردي إلى تفاقم الصراع الاجتماعي، وزيادة معدلات الجريمة، ومع إطالة آثار الإغلاق في بعض الحالات بسبب الموجات الثانية من الوباء، تتدهور أوضاع سوق العمل ومستويات الدخل والفقر في البلدان النامية بشكل تدريجي.
ففي روسيا، وفقاً للبيانات الرسمية، انخفض تدفق المهاجرين بنسبة تصل إلى 50٪ في نيسان الماضي، على الرغم من بدء تدفق المهاجرين بعد ذلك اعتباراً من أيار، واستمر في التعافي بحلول الربع الثالث من هذا العام، وبناء على ذلك، انخفض تدفق التحويلات إلى أدنى المستويات في الربع الثاني من 2020، لكنه تعافى بعد ذلك في تموز 2020 إلى أعلى مستوى عنه خلال السنوات الماضية، ومن المحتمل أن يكون هذا النمط من المد والجزر في التحويلات قد أحدث تأثيراً متناقضاً على الروبل، خلال ذروة الأزمة في نيسان، إذ انخفض الضغط على الروبل على خلفية انخفاض التحويلات، بينما تم في وقت لاحق رفع القيود عن الروبل الذي تعرّض لضغوط أكبر من جراء التدفق المتجدد للتحويلات.
تعتبر التحويلات المالية مهمة للغاية لاقتصاديات مثل قيرغيزستان وطاجيكستان وجورجيا ومولدوفا وأوزبكستان، ففي حالة قيرغيزستان وطاجيكستان، تجاوزت التحويلات المالية في الفترات الأخيرة في بعض الأحيان نسبة 30٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وبصرف النظر عن الحجم الهائل لتدفق التحويلات، فإن سماتها النوعية تجعلها أكثر أهمية، لأن هذه هي الأموال الأكثر استهدافاً للوصول إلى أولئك الذين هم في أمس الحاجة إليها مقارنة بالمساعدة الإنمائية الرسمية، أو الاستثمار الأجنبي المباشر أو غير ذلك من تحويلات التدفقات المالية.
إن التخفيض بنسبة 20-30٪ في التحويلات المالية لهذه الاقتصادات يعادل خسارة في التمويل طويل الأجل المستهدف الذي يتجاوز تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر أو الإنفاق السنوي في الميزانية على بنود رأس المال البشري مثل الرعاية الصحية والتعليم.
ستكون هناك أيضاً آثار سلبية على الاقتصادات المتقدمة التي اعتادت الاعتماد على تدفقات المهاجرين لتعويض الانخفاض السكاني الناجم عن التركيبة السكانية السلبية، كما أثرت تدابير الجائحة والحجر الصحي على تدفقات المهاجرين ذوي المهارات العالية، ما أدى على الأرجح إلى آثار سلبية على الإنتاجية في القطاعات كثيفة العمالة والتكنولوجيا الفائقة، وقد تجعل الانعزالية والإغلاق على خلفية الوباء من الصعب سياسياً العودة إلى الوضع السابق المتمثّل بالسماح لتدفقات كافية من المهاجرين للتعويض عن الانخفاض في القوى العاملة.
في النهاية، يؤثر عامل الهجرة على البلدان النامية أثناء انتشار الوباء بطرق متنوعة من خلال قنوات متعددة، مثل ميزان المدفوعات، والميزانية، وسوق العمل، وتنمية رأس المال البشري، وستحتاج استجابة المجتمع العالمي إلى التركيز على دعم البلدان المتأثرة بشكل خاص بانخفاض تدفقات الهجرة والتحويلات، وسيتعين وضع استراتيجية شاملة من مؤسسات التنمية العالمية والإقليمية لمساعدة الاقتصادات النامية على التغلب على آثار انخفاض التحويلات فيما يتعلق بالاحتياجات التمويلية والميزانية.