“كرسي الشيطان”.. الهواية تتفوق على الأكاديمية أحياناً
رغم كل التطورات التقنية الكبيرة التي حدثت في مجال الاتصال والتواصل الاجتماعي، والتي جعلت من المسرح حالة “كلاسيكية” متفردة تتطلب استمراريتها وبقاؤها بذل مجهود كبير لم يعد الكثير من المهتمين والمشتغلين بالفن معتادين عليه، أو مستعدين لبذله ومنحه بعضاً من وقتهم، فإننا مازلنا نجد في بعض التجارب الاستثنائية تأكيداً وإصراراً على خلود فن المسرح، وتوالد عشاقه ومريديه عاماً بعد عام، وربما من يشاهد العرض المسرحي الذي قدّمته فرقة سيزيف للهواة على مسرح دار الثقافة بحمص بعنوان “كرسي الشيطان” في عرضين متتاليين، لابد أن يكتشف هذه الحقيقة، نظراً للمجهود الكبير الذي قدّم للخروج بعرض مسرحي يرقى إلى سوية العروض الاحترافية، فقد شاهدت عروضاً كثيرة بتوقيع مخرجين وممثّلين أكاديميين ومحترفين معروفين على مسارح دمشق وباقي المحافظات السورية، ووجدت أن عرض “كرسي الشيطان”، إخراج فاخر أبو زهير، وتأليف خالد رضوان، لا يقل أهمية أداء، وبناء درامياً، وتوظيفاً للعناصر المسرحية بإتقان يخدم العرض ويتواءم معه، عن تلك العروض، وهذا ما يؤكّد على أن أكثر ما يحتاج إليه المسرح هو الشغف للوصول إلى الإبداع والجذب الجماهيري، وهذا ما حققه العرض جماهيرياً، حيث غصّ مدرج المسرح كاملاً بالجمهور، وخاصة من فئة الشباب.
ينضوي العرض ضمن ما يعرف بالمسرح الواقعي التعبيري، الذي يمزج بين التعبير الحركي والتمثيل اللفظي، ضمن توظيف دلالي يخدم الفكرة ويحقق معادلة التحفيز والإمتاع معاً، فالحركات التي تخللت اللوحات المشهدية كانت بمثابة تشكيلات نفسية أدائية تنبثق من النشاط الداخلي للإنسان، وتعبّر بشكل ما عن قهر الإرادة لديه.
يدور العرض حول فكرة بسيطة تحاكي الواقع الراهن بلا مواربة أو تضمين، عبر كركترات مشهدية كوميدية هزلية، تقوم على التهكم من مجريات الواقع الاجتماعي والاقتصادي والإداري الذي نعيشه حالياً، ويعبّر عنه الناس يومياً عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كركترات جاءت مقنعة ومتقنة رسماً وأداء.
في العرض هناك مملكة يحكمها ملك من خلال وزير يتحكم بكل مفاصل الحياة فيها، يختار عدة مستشارين لديه، يدير من خلالهم دفة المملكة، منهم مستشار “العلاكين”، رجل منافق وصولي، وآخر للصدق يتستر بالدين لنشر أفكاره الهدّامة في المجتمع، وأخرى مستشارة للحب، ورابعة مستشارة للاتحاد النسائي، مهمة هؤلاء المستشارين اجتراح الأفكار التي تتخم خزينة المملكة بالمال الذي يذهب إلى جيوبهم على حساب إفقار الشعب، وشيطنة المملكة، وتشويه كل معالم القيم الجميلة فيها حتى الحب، وتصل بهم الحال إلى محاولة تسميم الملك لضمان بقاء سطوتهم، واستمرار فسادهم، وعدم افتضاح تخريبهم، فيكلّف الوزير خادمه بوضع السم في شراب الملك، لكن الخادم يبلغ الملك بكل ما يحدث ويحاك ضده، فيقوم بسجنهم وتعيين الخادم المخلص وزيراً أولاً في المملكة، ليصل العرض إلى المشهد الختامي الذي لم يكن على مستوى ما قدّم، خاصة مع ظهور الملك يرتدي بدلة رسمية وربطة عنق، ويؤدي مشهداً خطابياً وعظياً غير منسجم مع السياق العام للعرض وغير مترابط مع الشخصيات الأخرى، وغير متناسق مع الصورة الخلفية لجانب من قلعة تاريخية توهم بالمكان، وإن أراد المخرج بذلك الإيحاء برزانة الشخصية واتزانها مقارنة مع المظهر الهزلي الذي رسمه لباقي شخصياته، لكنه كان يستطيع رسم كركتر مناسب للملك يوحي بالجدية، ويؤدي الغرض الفني والسينوغرافي الموسوم في العرض.
من جانب آخر رافقت العرض، وخاصة الحركات الاستدلالية، مؤثرات صوتية نظمت الإيقاع المتسارع، وحققت الغاية الانفعالية المتضافرة مع المشهدية التمثيلية، لكنها وصلت أحياناً إلى حدود المبالغة غير المجدية في إضفاء أجواء رعب، كما ألمح المخرج في كلمة الافتتاح، ومع هذا يمكن أن نخلص إلى عرض متميز من هواة غير متمرسين، استطاع المخرج التعامل معه كمنظومة بصرية سمعية متكاملة، واستثمار سمات ممثّليه الشكلية وانسجامها مع الشخصية للوصول إلى ملامح مسرحية مقنعة قدمت أفضل ما لديها ضمن الإمكانات المتواضعة المتاحة، فاستحقت التقدير والإعجاب.
آصف إبراهيم