مجلة البعث الأسبوعية

في دمشق كان المقهى الأول في العالم!!

“البعث الأسبوعية” ــ ابتسام المغربي

تضم المقاهي ذاكرة المدن الحديثة، وقد حفلت الأدبيات العربية بمأثور الكلام عنها، وتغنى الكتاب والشعراء بها، لتنتشر اليوم في الأحياء والحارات الراقية والشعبية، وترتادها الأعمار كافة، وحتى الأطفال باتوا يحتفلون فيها بأعياد الميلاد وغيرها، ما يؤشر على تغير العادات الاجتماعية وتطورها.

وترى الباحثة هلا جربوع أن المقهى ظاهرة شرقية، حيث افتتح أول مقهى في دمشق في العام ١٥٣٠ للميلاد، تبعه بعد عامين افتتاح مقهى آخر في حلب، ثم مقهى في تركيا بعد ربع قرن على مقهى حلب، ويقال أن من افتتحه حلبي ودمشقي، تحت مسمى “مدرسة العلماء”، وكان رواده يجلسون على الأرض. وانتشرت المقاهي بعد ذلك في مصر، ثم في أوروبا، بعد أكثر من قرن من الزمان، حيث افتتح مقهى في البندقية، ثم آخر في بريطانيا، وبعدها في فرنسا فألمانيا والنمسا واليابان، ثم في أمريكا.

كانت المقاهي في دمشق تفتح لكل الرواد، وبعضها محدد لأصحاب الحرف، وكانت مفروشاتها بسيطة لا تتعدى سكملات الجلوس والدكك الخشبية. ويعود أول مقهى في دمشق الحديثة إلى العام ١٩٣٠، ثم افتتح مقهى آخر في الدرويشية، ثم في مدخل سوق الحميدية، ثم في المناخلية، وتبعها انتشار المقاهي على ضفاف الأنهار، وانتشرت المقاهي بعد ذلك في أحياء دمشق كلها، ومازال مقهى النوفرة يحمي شيئاً من تراث كان هو الأجمل.

وكانت المقاهي مسرحاً للحياة السياسية والاجتماعية، ولكن لقاء الأصدقاء، وقضاء وقت الفراغ، والبحث عن الراحة تعد الأسباب الأولى لارتياد المقهى، حيث يتحرر الرواد من العمل والدراسة والنظم الاجتماعية، ما يساهم في إشباع الهوايات واكتساب المهارات.

وفي تحليل لبيانات رواد مقهى محدد، أوضحت الباحثة هلا جربوع أن الرواد الأكثر عدداُ هم من الذكور، ومن الفئات العمرية الأكثر شباباً، وأن نسبة العازبين أكبر مع وجود نسبة عالية للمتعلمين من حملة الشهادة الجامعية، وأشارت الى ارتفاع نسبة رواد المقهى من العاملين في القطاع الخاص، يليهم الفنانون، ثم المتقاعدون× والملفت أن نسبة من يرتادون المقهى لوحدهم شكلت خمس رواد المقهى، أما النسبة الأعلى فكانت لمن يرتاده مع الأصدقاء.

 

تاريخ تسرده المقاهي

من الهافانا والبرازيل والروضة والنوفرة والمناخلية في دمشق، إلى الفيشاوي ومتاتيا وريش في مصر، إلى الهورس شو ومقهى الزبتونة في بيروت، إلى جغاله زاده والزهاوي وحسن عجمي في بغداد، إلى مقهى كلوني ولافلور في باريس، إلى كافيه سنترال الذي افتتحه الأخوان باخ في فيينا، لا يزال ارتياد المقاهي كبيراً، إلا أنها فقدت بريقها الاجتماعي والفكري والثقافي بعد أن كانت تضم نخبة المجتمعات، ويرتادها أصحاب الفكر والكتاب. وفيما كانت مفروشاتها بسيطة تقتصر على كراسي الخيزران والطاولات الخشبية، أصبحت بكراسيها الباذخة ومفروشاتها الحديثة مكاناً لمتابعة المباريات الرياضية عبر الشاشات المعلقة؛ وتحولت الحوارات الفكرية إلى رؤوس منكبة على أجهزة الموبايل، وطغت ظاهرة الأركيلة التي باتت حاضرة تنشر دخانها وسط صخب لعبة النرد، والتعليقات على المباريات، ومتابعة المسلسلات، وعلى الطاولة الواحدة غاب الحديث والمشاركة.

لم يعد للمقاهي بعدها الفكري والاجتماعي الذي كان، وباتت أمكنة لا تمثل هوية المكان ولا مجتمع الرواد، وغلبت على مرتاديها مظاهر التقليد وقضاء وقت الفراغ والاحتفال بالمناسبات، في حين غاب عنها دورها الحواري ومتعة تلمس ورق الجرائد.

بل وأساء انتشار المقاهي في كثير من الأحياء إلى هوية المدينة العمرانية، وبنيتها الإجتماعية، ولعبت قضية تسوية المخالفات وتعديل الصفة العمرانية دوراً كبيراً في هذا الانتشار الذي احتل أرصفة شوارع محددة، وأساء إلى الجوار السكاني.

وترى معدة الدراسة التي نالت عليها شهادة الماجستير أن القهوة هي الأساس بوجود المقاهي، حيث شكل اكتشافها ثقافة خاصة لا ينافسها فيها أي مشروب، وأخذت المقاهي تسميتها منها، حيث يعدها بعض المتصوفة مشروباً طقسياً.

وشهد اليمن أولى زراعات حبوب البن الواردة من كراتشي، حيث كان أول ظهور للقهوة في القرن الخامس عشر، في دور العبادة الصوفية. أما في سورية، فأول ظهور للقهوة كان في حلب، في أواخر القرن الخامس عشر، حسب ما ذكره عالم النبات الألماني ليونارد روولف، الذي أكد وجود حبوب القهوة في حقائب المسافرين، أما انتشار القهوة في دمشق فيعود أيضاً إلى القرن الخامس عشر، حيث جلبه الشيخ سعد الدين علي الشامي من الأراضي المقدسة، ونشر عادة تقديمه إلى ضيوفه الكثر.