نقوش .. سكاكر الزمن
“البعث الأسبوعية” محمد كنايسي
عندما توفيت جدتي بعد أن بلغت من العمر عتيا، لم تكن قد عرفت من المدينة التي قضت فيها عمرها كاملا إلا الحي الذي كانت تسكن فيه، وبعض الأسواق القريبة التي كانت تتردد عليها لاشتراء حاجياتها، وبعض الأولياء الذين كانت تزورهم للدعاء، وحمام السوق الذي يعمل حتى الظهر للرجال ثم يتحول إلى استقبال النساء، وكانت تذهب إليه مرة في الأسبوع. وكانت تقضي أوقات الفراغ على قلتها عند جاراتها، وتساعدهن في تحضير المؤونة وصناعة الزربية، تماما كما كن يفعلن عندما يزرنها.. ولم تكن جدتي تحفظ من القرآن الكريم إلا آية أو آيتين تتمتمهما باللهجة العامية، ولكنهما كانتا بالنسبة لها مصدر كل خير وبركة..
عشت معها السنوات الأخيرة من عمرها، وقد ضعف بصرها كثيرا، وتقوس ظهرها ولم تعد تستطيع القيام بأي عمل فتكتفي بالجلوس في انتظار زيارة أحد أولادها أو أحفادها. وكان يحلو لي أن أجلس قربها وأسألها أن تحكي لي شيئا عن حياتها، ولكنها لم تكن تملك الكثير مما يستحق أن يحكى، فحياتها كانت بسيطة جدا وليس فيها من الأحداث ما يستحق الذكر، فكانت تجيبني بالحمد لله على كل شيء..
كانت تعتقد أنها عاشت ما يكفي فقد تزوجت وأنجبت وسهرت على تربية أولادها حتى كبروا وصاروا رجالا وتزوجوا وأنجبوا لها أحفادا، وكان هذا يشعرها بالرضا والاطمئنان، فقد فعلت ما عليها فعله ولم تقصر أبدا في غمر الجميع بالمحبة والحنان.. وهي الآن في انتظار حسن الخاتمة دون أي خوف أو قلق. وكنت أحب أن أراها وهي تفتح صرتها التي لا تفارقها والتي لم أكن أعلم ماذا يوجد فيها وتخرج منها سكرة تقدمها لي فأسعد بمصها وأنا أتخيل أنها سكرة أثرية أو سكرة الزمن، وكنت أسألها: جدتي هل زرت البحر؟ فتقول: لا لكني سمعت عنه – وماذا سمعت؟ – يقولون إنه غدير كبير جدا أكبر من فسقية الأغالبة وإن فيه أمواجا يمكن أن يبلغ ارتفاعها سقف بيتنا ويعيش فيه سمك كثير يصطاده الصيادون ويبيعونه للناس.. وأسألها: وما رأيك في زيارته الآن فهو لا يبعد أكثر من ستين كيلومترا عنا، فتجيب: الآن فات الأوان ولكني سمعت عنه على الأقل وأكلت من سمكه. كانت جدتي في تلك الفترة تقيم عند ابنتها التي لم يرزقها الله بالولد، وكان بيتها واسعا يضم العمة وزوجها والجدة وأنا الذي تعلقت بهم وبذلك البيت الجميل الذي تنبع السعادة من كل زواياه..
ومن الذكريات التي لا أنساها عن تلك الفترة أن زوج عمتي، وكان رجلا ثمانينيا، ضخم الجسم، كثيف الشعر، صغير العينين، يذهب في بداية كل شهر الى القباضة لاستلام راتبه التقاعدي، ومن ثم لشراء السمك، والخضار، وكيس السكاكر التي يوزعها على الأطفال في طريق عودته.. وتأخذ منه عمتي الأكياس، وعلى عادتها تنزل الى الدهليز حيث جرار المؤونة، وتخرج قدرا من الكسكسي لإعداد الطعام.. يومها اشترى زوجها سمكة واحدة كبيرة، فلما فرغت من الطبخ وحان وقت الغداء تحلقنا أربعتنا حول المائدة الخشبية، وبادرت برفع الغطاء عن الوعاء الفخاري، ففاحت رائحة شهية.. وتفرس زوج عمتي في الطعام مليا، ثم سأل بنبرة قلقة: أين السمكة؟ فردت عليه: لقد طبخت الرأس والذيل فقط، وملحت الباقي وتركته لنقليه غدا باذن الله. استشاط غضبا وقال: من أدراك أننا سنعيش الى الغد، هذه أمور لا تؤجل.. فقامت دون نقاش وفعلت.. وأكلنا السمكة كاملة، الرأس والذيل مطبوخين في المرق، والباقي مقليا في الزيت.
ومع أني أكلت الكثير من أنواع السمك مشويا ومطبوخا ومقليا بعد ذلك، إلا أن ذلك الطعام السمكي ظل هو الأكثر حضورا في ذاكرتي حتى اليوم.
توفي زوج عمتي، ثم لحقت به جدتي بعد مدة قصيرة، وبعدهما بسنوات توفيت عمتي وأنا في دمشق.. لكني ما زلت كلما عدت إلى القيروان أمر أمام ذلك البيت الذي لا أعرف سكانه الجدد، وأظل أمشي جيئة وذهابا وكأني أبحث عن شئ ما.. ربما عن تلك الأرواح التي أشك أنها فارقت البيت.. ربما عن رأس تلك السمكة أو ذيلها.. ربما عن سكاكر الزمن.. وربما عن تلك الدمعة التي لمحتها على خد العمة عندما مرضت ذات يوم، فرقتني وهي تتضرع الى الله أن يشفيني..