مجلة البعث الأسبوعية

في حضرة “كيف”؟ الماغوط معلماً!!

“البعث الأسبوعية” ــ د. نهلة عيسى

ضخامة وهول المأساة التي عاشتها سورية ما يقارب العشر سنوات حتى الآن، كانت – وما زالت – تستحق المزيد من النبش والبحث من قبل المسؤولين والمفكرين والفنانين عن خفايا يراد لها أن تبقى في الخفاء عن عيون الجميع، خاصة المواطنين السوريين الذين كانوا هم الضحية، وأبرز من انتهك حقه وستره في هذه الحرب المجنونة التي نقل أخبارها “شهود عيان”، وجسد وقائعها فنانون معظمهم غادر البلاد منذ سنوات، وتفرج على الحرب بالنظارات من بعيد، وحاكم البلاد والعباد بالاستناد إلى ما تعكسه النظارات من رؤى، وما تعكسه الدولارات من أجندات! فانهمر على رؤوسنا طوفان من الدراما التلفزيونية العربية والسورية التي تستثمر في وجعنا، وتقيم معه أطراً تواصلية مفرطة في عموميتها وتجريدها، لدرجة أن استدلالاتها التي تدعي المنطقية “السببية” تأتي فارغة من أي محتوى، سوى الثرثرة والاستجرار والاستطراد، والشفاهية التي لا يمكن أن تستثير صورة، ناهيك عن التعميم الانفعالي المقحم على الزمان والمكان، ما يعني الانتقال من مقدمة مُضللة إلى نتيجة حتمية ملزمة، لا علاقة لها بدوافع وأسباب موضوعية، أو فنية، وإنما بدوافع إيديولوجية محضة تحول الفن إلى نشرة أخبار!!

هذه هي مشكلة الدراما العربية عامة، والسورية خاصة، التي تدعي الواقع وهي تهرب منه، وتحاكم الحاضر بالماضي، ولذلك فهي متخمة بالأزمنة الغابرة، حيث يجري التقاتل فيها بالسيوف والحراب، وتعقد المعاهدات وتصان بكلمة شرف وعصمة عرف، وقَسَم بالشارب، بينما سماؤنا ملبدة بالطائرات من غير طيار، ودماؤنا معلقة في رقبة المعدن، وسلام عيشنا أو عدم سلامه مرهون بإرادة الأقوى والأشد سفاهة.. ناهيك عن استحضارها – أي الدراما – للعارض والعابر، لتحاكم الدائم والثابت، كما تستحضر الماضي لتنسب إليه الشرور والأخطاء والعثرات والمؤامرات كلها، لتثأر – كما أسلفت – من الحاضر بكل تفاصيله الإنسانية، وتدينه وتجرّمه، وتعلن رفضها له، ولكن – في الوقت ذاته – خوفها منه بكل ما يعنيه من سطوة وسيطرة، عبر فصل محتواه عن الزمن الراهن بسماته المميزة، وحصده في زمن مختلف بالترتيب الفعلي نفسه، وبالعلاقات الواقعية المعاصرة بين عناصره، وهو أمر يخرج الدراما العربية والسورية من حضن الفن، ليرمي بها في حضن الانفعال المحض، حيث الزمن مسطح، والساعة تقوم، والتبصير (من البصيرة) غائب، والمعنى والقيمة منفيان، والتغيير متعذر، والجريمة الكاملة أن تكون عربياً، على حد تعبير المبدع الكبير، محمد الماغوط، والذي لطالما احتل – ويحتل للآن – موقعاً متميزاً في ذاكرتي ووجداني، قام أولاً على معرفتي به “فرجة”، ككاتب مسرحي، قبل لقائي الساحر بشعره ونثره. وأظن أن جيلي بمعظمه (وكان في طور الطفولة في نهاية سبعينيات القرن الماضي) تعرف إلى الماغوط عبر المسرح، وشكلت مسرحية “ضيعة تشرين”، ومن ثم مسرحية “غربة” جزءاً كبيراً، ليس فقط من ذائقته الفنية، بل أيضاً من فهمه لمعنى مواطن ووطن، بمعزل عن الصورة النمطية لكلا المفهومين؛ ذلك لأن الماغوط، لم يتبع الإطار التقليدي في تأصيله لهما، بل اعتمد على مسرحة التراجيدي في الحياة اليومية، وتحويله إلى صور لا تتفق مع توقعاتنا للأحداث، ولا تقدم حلولاً، ولا تجيب على أسئلة من نوع “ماذا حدث؟”، و”كيف ستسير الأمور؟”، حيث لا لحظات ذروة هناك، ولا زمناً محدداً بالمعنى الواقعي، ولا نهايات محتومة، بل بنية دائرية كل خطوة فيها تقود إلى الأخرى المعادة، لأن لا شيء في بلداننا الحزينة يتغير، لكي يستوجب الإنهاء والنظر إلى المستقبل!!

فالغربة في “ضيعة تشرين” كانت تجهيلاً وتهميشاً للمكان، وهجرة من الوطن، هي درب لا مفر منه، إلى تهميش الإنسان؛ والغربة في “غربة” كانت في الوطن، حيث هو فضاء منكوب مفتوح على اتساع الوطنين الصغير والكبير معاً؛ أما في “كاسك يا وطن” فقد تعمقت الغربة، وأصبحت غربة عن الذات في الوطن، لأن الحصول على اللقمة فيه كان يعني بيع كل الأشياء، بل حتى الأبناء؛ والأفق يمكن أن يكون كونياً إذا تشابهت الدوائر وتلاقت، وما أكثر وجود الدوائر في حياتنا اليومية، حيث المبتذل عادي، والأكاذيب والخداع والمراوغة طقوس ممنهجة ومقوننة لإخفاء الضعف والخوف والفقر وعدم اليقين، وأيضاً لإخفاء الدموع عبر افتعال الضحك، وادعاء السخرية،، وتكلّف الترفع، للهروب من غربتنا عن الآخرين، كل الآخرين – بالمعنى الموضوعي والعاطفي – الذين لطالما شكلوا في مسرح الماغوط مرآة للذات، وعيناً للكاميرا على دواخلنا!

كما شكل “الآخرون” مطية لتعميق الإحساس بفقدان الهوية، وهامشية الوجود، وحتمية المعاناة، وعقم الذات في ظل الفساد، والقهر، والخوف على الذات حتى من الذات، مع دعوة للتطهر من السلبية والشفقة والخوف والشك، حيث لا إجابة لدى الماغوط “عامداً” عن السؤال المقلق المدمر “لماذا؟!” سوى السياف مسرور، على أمل أن يوقظنا الوجع، فنصحو للبحث عن إجابات لا ترتكن لمنطقي السببية والحتمية، بل تقوم أولاً على رفضهما، ومن ثم إعلان “كيف؟” سؤالاً الإجابة عليه هي الحتمية!!