ملتقيات عابرة للثقافة
“البعث الأسبوعية” ــ سلوى عباس
هناك مظاهر تؤذي الثقافة، فالمثقف الحقيقي يعبّر عن دوره الفعلي بآرائه التي يعيشها قولاً وفعلاً، وليس مجرد التنظير بها، واعتبارها وسيلة يتباهى بها؛ وما أقصده من كلامي ضرورة تغيير تسمية الفعاليات التي تقام في المراكز الثقافية، أو أي مؤسسة ثقافية، وأن تتم مراجعة ما يقدم، والنظر بأسلوب وطريقة تقديمه، خاصة وأن الخيارات كثيرة، فلماذا لا نوجد مفردات تكون أقرب للروح والوجدان؟ كذلك المحاضرات، ليس ضرورياً أن تأخذ الطابع الروتيني بأن يجلس المحاضر على المنصة والجمهور في الصالة، ويأخذ هو دور الأستاذ وهم المتلقين الذين سوف يملون بالتأكيد، أما إذا أخذت الجلسة شكل الحوار حول الموضوع المطروح فسوف يكون هناك تفاعل أشمل وأمتع؛ وبحكم التكنولوجيا التي غزت حياتنا وقلبتها كلياً، يجب الحفاظ على بعض المكتسبات بأن نغير بعض المفردات، كتغيير اسم الندوة، وهناك مفردات كثيرة يمكن أن تشدّ للحضور.
انطلاقاً مما سبق، ومع بداية الحرب على سورية، ظهرت بعض الأصوات الثقافية التي حاولت التعبير عن نفسها عبر ملتقيات ثقافية أعطتها مسميات متعددة، منها ما اقتصر على الشعر، ومنها ما اشتمل على أنواع أدبية وفنية متعددة؛ واتخذوا من مطاعم وكافيتريات دمشق القديمة مكانا للقائهم بجمهورهم الذي لبى نداءهم بنسبة لا بأس بها.
على العموم، تلك الظاهرة لاقت حضوراً واهتماماً ومتابعةً عند الكثير من المثقفين من شعراء وكتاب وفنانين، وتلك الملتقيات الخارجة عن إطار الوصاية الثقافية الرسمية، أو أي جهة أخرى، حاولت بجهود القائمين عليها توصيل رسالة ثقافية ومجتمعية تُعنى بمفاهيم جديدة للإلقاء والتلقي بعيداً عن المنابر الكلاسيكية، واستقطاب طاقات شابة جديدة في الوسط الثقافي اليوم؛ ومع اتساع مساحة تلك الحالة، حاول القائمون عليها تشكيل خطاب أو حالة جديدة تتم من خلالها مواجهة الخراب الثقافي والفكري والأدبي الذي تفرزه ظاهرة الحرب والدمار والموت، وفي إرساء الحب والحياة والحوار من خلال الشعر والأدب والفنون عامة.
من هذه الملتقيات ملتقى “يا مال الشام” الشعري، الذي لم يكتف باستقبال الشعراء من أجيال وتجارب مختلفة، بل أقام مهرجاناً سنوياً، وأطلق جائزة باسم الملتقى؛ وهناك أيضاً ملتقى “أضواء المدينة” وملتقيات أخرى كثيرة أقيمت في أحياء أخرى من دمشق، لكن هذه الملتقيات رغم أهميتها لم تساهم بخلق خطاب ثقافي، بل عملت على تحريك الأجواء ومحاولة إعادة المكانة التي تليق ببهاء الكلمة فقط، وكانت بالوقت ذاته فرصة لإيصال رسالة وكلمة في مكان ما. وقد تفاءلنا بهذه الملتقيات انطلاقاً من فكرة أن يكون هناك صدى آخر لشباب ينظّرون للثقافة برؤية مختلفة عن السائد، إضافة إلى أن الصوت الواحد لا يمكن أن ينتج إبداعاً، ولابد من تعدد الأصوات، ومن واجب منتجي الخطاب الثقافي المؤسساتي أن يمكّنوا الخطاب الثقافي الأهلي من الحضور، وأن يتشاركا الفعل الثقافي، ويكتمل أحدهما بالآخر، فلا المؤسسة الرسمية تستطيع أن تصنع ثقافة وحدها، ولا للمجتمع الأهلي يمكنه أن يصنع ثقافة وحده، والأجدى أن يتكامل الدوران معاً؛ من هنا كان التشجيع أن يكون ثمة ملتقيات أهلية فاعلة في الحراك الثقافي، وأن يكون لها دورها الذي لا يقل أهمية وقيمة ومكانة عن دور المؤسسات الثقافية الرسمية؛ لكن للأسف ظل هذا التكامل غائباً، ولم توجد آليات تقرب المسافة بين الرسمي والأهلي، وظل كلاً منهما يغني على ليلاه، والنتيجة أن هذه الملتقيات توقفت ولم تستطع الاستمرار لأسباب عدة منها عدم توفر التمويل المادي كون أغلبها كان يعتمد على تمويل شخصي من أعضاء الملتقى، وكذلك عدم وضع برنامج عمل ينظم عملها من قبل القائمين عليها، إضافة للخلافات القائمة بين المثقفين المتناحرين فيما بينهم، فكانت حرباً من نوع ثان.. لكن، ومع كل السلبيات التي عانتها تلك الملتقيات كانت صوتاً جميلاً يقول: إن دمشق نابضة بالحب والإبداع وأهلوها شعراء ومبدعون وقادرون بها وبإبداعهم على تخليدها حياة شعراً وجمالاً.