الحركة التصحيحية في ذكراها الخمسين.. إصرار على الثوابت وتطلّع للمستقبل
إبراهيم أحمد
في السادس عشر من تشرين الثاني عام 1970 دخلت سورية حقبة جديدة في تاريخها اتسمت بالاستقرار السياسي، واستقلال القرار الوطني، ورفض الخضوع للإملاءات الخارجية التي تتعارض ومصلحتها الوطنية والقومية، ولعل هذا الإصرار على استقلالية القرار الوطني وموقفها العروبي الصلب في الدفاع عن القضايا القومية العربية، وفي طليعتها القضية العربية الفلسطينية، يُفسّر ما تمر به سورية اليوم من حصار، وما تعرّضت وتتعرّض له من حرب ظالمة بفعل التآمر الخارجي وتصاعد الهجمة الصهيوأمريكية، وتحوّل بعض الأنظمة الإقليمية، مثل نظام أردوغان الانكشاري العثماني، وبعض الأنظمة العربية، وخاصة دول البترودولار، إلى أدوات لتنفيذ مخططات الغرب الاستعماري الهادفة إلى تحطيم مثل هذا النهج الاستقلالي الوطني العروبي المقاوم كي لا يكون مثالاً ونموذجاً في التصدي للمخططات الاستعمارية الصهيونية في المنطقة العربية، لاسيما أن سورية كانت، على امتداد العقود الماضية، المعبّر الحقيقي عن نبض الشارع العربي، والمتمسّكة بالحقوق العربية، والرافضة لتقديم التنازلات، والمصرّة على أن نهج المقاومة هو الطريق الأمضى لاستعادة الحقوق العربية المغتصبة.
أحدثت الحركة التصحيحية المباركة التي قادها الرئيس المؤسس حافظ الأسد انتقالاً نوعياً وإيجابياً تجلى في تحقيق الاستقرار السياسي، فقد أرست دعائم نظام سياسي جديد وعصري في سورية، نظام قائم على أساس التعددية السياسية والحزبية، حيث تم حشد كافة الطاقات التقدمية والشعبية في جبهة وطنية تقدمية تضم الأحزاب الرئيسية في سورية بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي، وأرست مفهوم الديمقراطية الشعبية الواسعة، وتوفير حرية وكرامة المواطن، وتنظيم الجماهير في منظمات شعبية ونقابات مهنية ومؤسسات ديمقراطية منتخبة في أرجاء سورية، وأصبحت سورية بفضل الحركة التصحيحية دولة مستقرة بقرارها وسيادتها، وجعلتها دولة عصرية قائمة على أساس القانون وبناء المؤسسات، فصدر قانون الإدارة المحلية، وميثاق الجبهة الوطنية التقدمية، ومن ثم كان الدستور الدائم للجمهورية العربية السورية الذي كرّس دولة القانون والمؤسسات، وجعل من سورية دولة قوية قادرة على مواجهة الضغوط والتحديات.
كما أسست الحركة التصحيحية المباركة لنهضة شاملة في جميع جوانب الحياة السورية أدت إلى تنمية شاملة: اقتصادية واجتماعية وثقافية وتربوية وتعليمية، فتم بناء قاعدة اقتصادية قوية وواسعة، واعتبار التنمية الشاملة مسؤولية وطنية للدولة والمجتمع، ومن هذا المنطلق، أطلقت الحركة التصحيحية التعددية الاقتصادية، وشجعت المبادرات الخاصة، وأتاحت الفرص أمام الجميع للإسهام في تنمية وتطوير المجتمع، وأولت الحركة التصحيحية القطاع الزراعي أهمية خاصة من تخطيط وتنمية وتطوير للزراعة في مجاليها النباتي والحيواني من خلال التوسع بها، وتوفير متطلبات الزراعة من إقامة السدود، والاهتمام بالموارد المائية، ونشر الأساليب العلمية الحديثة في الري واستصلاح الأراضي، وتطوير البادية، وتقديم الدعم للفلاحين وأسرهم، واستخدام المكننة الزراعية، وتطبيق أساليب التقنية الحديثة في الزراعة، وهذا ما مكّن من تحقيق الاكتفاء الذاتي، والأمن الغذائي بتوفير المحاصيل الاستراتيجية.
لقد مثّلت حركة التصحيح انتقالاً حاسماً، وتحولاً جذرياً طال أوجه الحياة جميعها في سورية، وبشكل جعل منها ثورة حقيقية بكل ما لهذه الكلمة من معنى، اتسمت بسلسلة من الإنجازات الداخلية وعلى كل المستويات، وهذا ما تأكد في قول القائد المؤسس حافظ الأسد: “… الحركة التصحيحية حاجة، وهي من إنجازات حزبنا وشعبنا، وهي في جوهرها انتصار للحرية وتمسك بها”.
لم تكن الحركة التصحيحية حدثاً عادياً في تاريخ سورية، فقد أسست لفعل جعل من سورية قوة فاعلة مؤثرة في المنطقة، ورقماً صعباً من المستحيل تجاهله أو تجاوزه، فانتهجت سياسة التضامن العربي من خلال سعيها الحثيث لتنقية الأجواء العربية التي كانت شديدة التلبد لمواجهة الكيان الصهيوني الغاصب، ما عزز موقع سورية العربي والإقليمي والدولي، لاسيما بعد انتهاجها سياسة الانفتاح والحوار بكفاءة، رافقها استقلال القرار الذي يرسم حدود المصالح الوطنية والقومية، ويُعلي من شأن الدفاع عن هذه الحقوق والمصالح، وبدفاعها المستمر والمتواصل عن الحقوق والمصالح الوطنية من خلال نهج المقاومة الذي جعلت منه سورية ثقافة تميزت بها في المنطقة، فقد عمل القائد المؤسس حافظ الأسد لتكتسب قضية الصراع العربي- الصهيوني بعدها القومي، فحدد السياسات التي تؤدي إلى عزل العدو الصهيوني سياسياً واقتصادياً، والتصدي للمؤامرات الاستعمارية في المنطقة، والعمل بكل الوسائل لإحباط المحاولات الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية من خلال ما يطرح من تسويات وحلول جزئية منفردة، والتركيز على المعركة الرئيسية مع العدو الصهيوني، والابتعاد عن المعارك الهامشية، والانطلاق في السياسة السورية من المصالح القومية والوطنية وبما يخدم أهداف النضال العربي، فكان اتحاد الجمهوريات العربية مع مصر وليبيا، والتقارب الوحدوي مع الأردن والعراق، على الرغم من الخلافات العميقة بين سورية وهذين البلدين العربيين آنذاك، ودور سورية القومي في لبنان، والعلاقات المميزة مع كل الدول العربية.
وبصفة عامة، كانت الحركة التصحيحية خطوة انفتاحية عملاقة مع البلدان العربية بغية تحقيق الغاية السامية للشعب العربي ألا وهي: الوحدة، وهكذا فقد كانت سورية القاسم المشترك في أي عمل وحدوي عربي، وصولاً إلى أعلى درجات التضامن العربي. لقد كانت الحركة التصحيحية وبحق حركة الحزب والجماهير نحو المستقبل الأفضل، عرفت سورية في ظلها الأمن والاستقرار والازدهار، وتم بناء دولة المؤسسات، وخوض حرب تشرين التحريرية، ملحمة العرب في العصر الحديث.
وعلى قاعدة نهج التصحيح المتجدد، يقود السيد الرئيس بشار الأسد انطلاقة واثقة، حيث تسير سورية على خطين متوازيين: الأول خط التطوير والتحديث الذي شمل مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية كافة من تطوير للقوانين، وآليات عمل أجهزة الدولة، ووسائل إدارة الإنتاج، وما إلى ذلك، في عمل دؤوب لا يعرف الكلل ولا الملل تشارك فيه فئات الشعب كافة لصنع الغد الأفضل لسورية، والخط الثاني: الوفاء للنهج القومي الذي اختطه الرئيس المؤسس حافظ الأسد لجهة القضايا السياسية الكبرى، وفي مقدمتها قضية العرب المركزية، القضية الفلسطينية .
وهذا النهج الاستراتيجي هو ما ينسج عليه السيد الرئيس بشار الأسد، من خلال التأكيد المستمر على التمسك بكل ذرة من تراب أرض الوطن، والالتزام بالثوابت الوطنية والقومية، يقول السيد الرئيس بشار الأسد في خطاب القسم الذي ألقاه بتاريخ 17/ 7/ 2000: “… إن نهج القائد الأسد كان نهجاً متميزاً، وبالتالي فإن الحفاظ على هذا النهج ليس بالأمر السهل، وخاصة أننا لسنا مطالبين فقط بالحفاظ عليه وإنما بتطويره أيضاً”.
إن سورية التي تعرّضت لأبشع مؤامرة خططت لها القوى الاستعمارية الغربية و”إسرائيل”، واستُخدمت في تنفيذها أدوات إقليمية وعربية وداخلية عن طريق زرع الفتن وإثارة النعرات الطائفية لضرب الوحدة الوطنية ونسف المحور الممانع، وفرض الحلول الصهيو- أمريكية على المنطقة برمتها من خلال دعم وتمويل العصابات الإرهابية التكفيرية، وفرض حصار اقتصادي جائر على الشعب السوري، كل ذلك لن يثنيها عن التمسك بثوابتها الوطنية والعروبية وهي تكتب الفصل الأخير من تحرير كامل ترابها الوطني، والقضاء على العصابات التكفيرية، ودحر الغزاة والطامعين بخيراتها، وسيستمر شعب سورية المعطاء بالعمل الدؤوب ليبني ما دمرته العصابات الإرهابية، ويزرع أرضه، ويستثمر ثرواته لتزدهر سورية من جديد بقيادة السيد الرئيس بشار الأسد الذي يقود سفينة الوطن إلى شاطئ الأمان.