دراسات

في ذكرى التصحيح المجيد

الدكتور سليم بركات
لما كان الانفصال، الذي وقع في 28 أيلول 1961، كارثياً وموجعاً، بسبب تقويضه الوحدة العربية الأولى في التاريخ العربي الحديث والمعاصر (وحدة سورية ومصر عام 1958)، ولما كانت الأزمة الكبرى التي عاشتها سورية بين الانفصال وثورة البعث، في الثامن من آذار عام 1963، دافعاً للجماهير العربية في سورية لإسقاط هذا الانفصال (حكم الرجعية العربية)، ولما كان هنالك من استغل هذه الثورة تحت شعارات اليمين واليسار، ما شكل تناقضاً أدى إلى حركة 23 شباط عام 1966، فإن الحركة التصحيحية، التي قامت بقيادة القائد الخالد حافظ الأسد، قد طوت هذه الملفات جميعاً بإعلان بيانها التصحيحي الأول الذي أذيع في 17 تشرين الثاني 1970، وهو بيان عبر عن الرؤية السليمة والتشخيص الثوري الصحيح لما تعانيه سورية العربية على صعيد الحزب، وعلى كل صعيد يتعارض مع الأهداف القومية في الوحدة والحرية والاشتراكية لهذا الحزب، وبالتالي كيف لا يكون هذا التشخيص الثوري المعبر والقائد الخالد حافظ الأسد قد صقلته التجربة الثورية العربية منذ أن كان على رأس اللجنة الحزبية العسكرية المؤلفة بمبادرة منه في مصر إبان الوحدة في أواخر خمسينات القرن المنصرم، ومن ثم هو من كان على رأس هذه اللجنة في سورية زمن الانفصال، عندما كانت تعيد الاتصال بالبعثيين لتجميع صفوفهم استعداداً لاسقاط الانفصال، وإعلاناً لقيام ثورة البعث.
الذين يقرأون اليوم بيان القيادة القطرية المؤقتة، الصادر عن هذه القيادة آنذاك، يجدون التنفيذ الدقيق لكل ما ورد فيه، بيان تضمن توضيحاً شاملاً للضرورات التاريخية التي تطلبت إنقاذ الحزب من قياداته المناورة والعاجزة عن مواكبة قواعده وجماهيره نتيجة تصلب عقليتها المتعالية، وتناقضها وشلليتها، وانقسامها على نفسها، وتخفيها خلف شعارات أثبتت من خلال الفكر والتطبيق أنها لا تؤمن بها، الأمر الذي أدى إلى توالي الكوارث على الحزب والثورة بفعل هذه العقلية التي لابد من تجاوزها. ولقد كان هذا التجاوز من خلال الحركة التصحيحية التي قادها القائد الخالد حافظ الأسد في خطوة ثورية جريئة حاسمة وواعية تعطي لثورة الثامن من آذار دفعاً جديداً وقوة جديدة بعد أن أعادت للحزب جماهيره، وللجماهير حزبها.
لقد حدد القائد الخالد أهداف هذه الحركة، منذ الأيام الأولى لقيامها، بالتحرير الكامل لجميع الأراضي العربية المحتلة، وبعدم التفريط أو التنازل عن أي جزء منها، وهذا لا يكون إلا باستعادة الحقوق الوطنية المشروعة للشعب العربي الفلسطيني وحقه في تقرير مصيره على أرضه، فالمعركة في فكر القائد الخالد معركة مستمرة مع العدو الصهيوني كونها معركة وجود، ومن ثم كانت وما زالت وستبقى معركة قومية بامتياز على الصعد كافة، وبالتالي هي معركة ممارسة تؤدي إلى عزل العدو الصهيوني سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً، وفكرياً… وهذا لا يكون إلا بمقاومة هذا العدو عسكريا واحباط محاولاته الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية، كما لا يكون إلا من خلال بناء جبهة وطنية داخلية تعزز قدرات القطر العربي السوري الذاتية العسكرية منها والاقتصادية والاجتماعية لنصرة هذه القضية.
من هذا المنطلق حافظت هذه الحركة على ثورة البعث، وخلصتها من شوائبها بعد أن وعت آلام الأمة وآمالها لانتشالها مما هي فيه من سلبيات محولة الحلم إلى الواقع. يقول القائد الخالد حافظ الأسد: “نحن مع الشعب نعايش معاناته ونتعرف على رغباته ونعبر عن إرادته لأننا نتحمل مسؤولية القيادة ويقع علينا عبء تحقيق تطلعاته وتنفيذ رغباته، ولسنا من يشير إلى الخطأ فقط، ولسنا من يعدد السلبيات وحسب، وإنما نحن وقبل كل شيء الطليعة التي تعالج الخطأ وتتجاوز السلبيات وتصحح المسار عندما يعترض هذا المسار أي خلل، لأن شرف المسؤولية يستدعي النضال ضد النفس أولاً وضد أمراض الواقع ثانياً، فالبعث في بنيته تجسيداً لما ينبغي أن يكون عليه الواقع”.
لقد استطاعت سورية في ظل الحركة التصحيحية أن تمضي أشواطاً بعيدة في كافة المجالات على طريق التطور والتحديث أكان ذلك في إطار تحقيق الدولة العصرية والتطبيق الديمقراطي الجماهيري، أم كان ذلك في رفع مستوى معيشة المواطن والمحافظة على كرامته، أم كان ذلك في تطبيق ديمقراطية التعليم وربط التعليم بالمجتمع، أم كان ذلك في تطوير القوى الدفاعية في مواجهة العدو الصهيوني، كما استطاعت أن تتجاوز كافة الصعوبات التي اعترضت ثورة آذار المجيدة، ولعل في مقدمة انجازاتها في هذا المجال هو تمكين الشعب العربي وفي الطليعة الشعب العربي السوري من امتلاك مقومات الصمود الذي تجلى من خلال إقامة الجبهة الوطنية التقدمية على مستوى سورية، وجبهة الصمود والتصدي على المستوى العربي، مقومات لولاها لما توفر للأمة العربية القدرة على مواجهة أعداءها في زمن المتغيرات الدولية الحافل بالمؤامرات المتلاحقة، مقومات أنجزتها هذه الحركة على مستوى سورية من خلال الاستقرار الأمني وتنفيذ خطط التنمية الاقتصادية، والاستمرار في بناء القاعدة الاقتصادية السليمة، وإعطاء المنظمات الشعبية دورها الفعال في المراقبة والممارسة إلى جانب بناء القوات المسلحة للقيام بواجبها على الوجه الأكمل في معركة التحرير والتي بلغت ذروتها في حرب تشرين التحريرية في عام 1973، ذلك الانجاز القومي العربي الذي انتقل بالأمة العربية من حالة اليأس إلى حالة الأمل، ومن حالة الإحباط إلى حالة الانتصار، كيف لا ومن رحم تشرين قد ولدت المقاومة، كيف لا وسورية اليوم تبلور الفعل العربي المعاصر من خلال الإنسان العربي المقاوم المعتز بعروبته وكبريائه وكرامته الرافض للاستسلام والهزيمة والمتمتع بالأهلية الكاملة لخوض معارك الحرب والسلم على حد سواء، معارك تحافظ على مكونات الحق العربي بعيداً عن العواطف الفضفاضة والشعارات الفارغة، وهي مقتنعة بتحرير العقل العربي من كل الشوائب عبر منهجية علمية موضوعية مقاومة تكشف الكيان الصهيوني على حقيقته العدوانية.
في مجال السياسة العربية بادرت هذه الحركة في تطوير أساليب العمل الوحدوي الذي تحقق بالانضمام إلى اتحاد الجمهوريات العربية مصر وليبيا والسودان، كما تحقق من خلال شعار التضامن العربي الذي أنتج حرب تشرين التحريرية ومن خلال تكامل اقتصادي عربي متوافق وتطوير المناهج التعليمية والتربوية بما يعزز وحدة الفكر القومي العربي. وفي المجال الدولي، كان الاستمرار في بذل الجهود الفعالة لترسيخ الحقوق العربية وفي الطليعة الحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني على مستوى الأمم المتحدة ومؤسساتها الدولية، ومجموعة الدول الإسلامية، ومنظمة الوحدة الافريقية، زد على ذلك تطوير العلاقات مع البلدان الاشتراكية بما يخدم القضايا العربية.
في ظل الحركة التصحيحية كانت استقلالية القرار العربي السوري، وفي ظل الحركة التصحيحية بقيت القضية الفلسطينية هاجس العروبة في سورية وخارجها، تعيش أبعاد وعد بلفور، ونكبة عام 1948، وهزيمة حزيران 1967 وما تبع ذلك من نكبات، وفي ظل الحركة التصحيحية تمحور الشعور الوطني القومي من خلال تسعير الشرارة الأولى للمقاومة الفلسطينية ضد الاستعمار الاستيطاني الصهيوني وتحديد العلاقة بين سورية والدول الأخرى بحسب اعتراف هذه الدول بالحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني، ولا نبالغ إذا قلنا أن لهذه الأسباب استهدفت سورية في هذه الحرب الكونية الإرهابية من قبل قوى الشر جميعاً وفي طليعتها أمريكا ومن يغرد في سربها، ممن يستأثرون بالقرار الدولي وفرض سياسة الحصار والفقر والمجاعة في ظل العولمة، ولاسيما بعد أن أدركت هذه الدول أن نهج التصحيح مستمر بقيادة الرئيس بشار الأسد، وهو أكثر تمسكا بقضايا الأمة العربية وأكثر دفاعا عنها وعن حقها في تحرير أراضيها بقوة المقاومة وبما تتضمن هذه القوة من كرامة وأرض وثقافة وإرادة وتاريخ.
بقي أن نقول: لقد واجهت الحركة التصحيحية تحديات صعبة، وكانت في مستوى مواجهة هذه التحديات، واجهت نكسة حزيران عام 1967، والحرب الأهلية في لبنان عام 1975، والاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، كما واجهت حرب الخليج الأولى 1980، والثانية عام 1990، والثالثة الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وقبل ذلك كله انتصرت في حرب تشرين التحريرية، وهي الحرب التي هزت الكيان الصهيوني، وأنهت أسطورة الجيش الذي لا يقهر.
ستبقى الحركة التصحيحية المجيدة التي قادها القائد الخالد حافظ الأسد مفصلا تاريخيا بناء في تاريخ سورية المعاصر من حيث التطور والتحديث ومن حيث الاستقرار الأمني والسياسي ومن حيث القرار الوطني الديمقراطي المستقل القائم على التعددية السياسية ودور المؤسسات الوطنية وفي طليعتها مؤسسة القوات المسلحة التي أذهلت العالم بتضحياتها وصمودها في مواجهة أعداء سورية أعداء الأمة العربية، وكيف لا يكون هذا البقاء ونهج التصحيح مستمرا بقيادة الرئيس بشار الأسد في مواجهة التحالف الصهيوني الرجعي حتى يكون الانتصار، كما ستبقى خزان الصمود والتصدي في موقع القلب من محور المقاومة المستهدف من قبل أعداء سورية بهذه الحرب الكونية الامبريالية الصهيونية الرجعية الإرهابية.. إنها بمواقفها الثابتة لا تفرط بذرة واحدة من ترابها، ولا تساوم على حق من حقوق الوطن، كانت ومازالت وستبقى سورية المقاومة.