الثّقافة العربيّة بين الحال والمآل
لم تستطع الحركة الثقافيّة التنويريّة في بلدان العالم العربي أن تنقل الوعي الجّمعي المجتمعّي إلى مصافّ البلدان المتحضّرة علميّاً وثقافياً، رغم كلّ الجّهود الحثيثة والمستدامة وامتلاكها للكادر الهائل من وزارات ومديريّات ومراكز ثقافيّة ومسارح ودور نشر وصحف ومجلات ثقافيّة واتّحادات كتّاب وصحفييّن، وما يتبعها من كوادر أخرى عدا العدد الكبير من الموظّفين والعمّال والمبالغ الضّخمة من الأموال التي تنفق لاستمرار عملها وترهق كاهل خزائن هذه البلدان. وذلك لأن القوى المسيطرة فعليّاً في مجتمعات هذه البلدان هي القوى الرجعيّة المنغلقة فكريّاً وعقائدياً وبقايا فترة الاستعمار المباشر حتّى لو تغيّرت ملامحها الخارجية وتدافع هذه القوى عن مصالحها بشراسة وبكل الوسائل حيناً بالتدخل المباشر وحيناً آخر بالمراوغة والالتفاف على كل محاولات الارتقاء بالوعي على حساب المصلحة العامّة تؤازرها تلك الجموع المتخلّفة المستفيدة من بعض الفتات والمصالح الآنية، ولاسيما أن هذه الجموع عاشت عهوداً من التعتيم عبر وضع خطوط حمراء ومقدسات تلّوح لكل من يحاول وضع منظومتها تحت الفكر النقدي بالتكفير حيناً وبالتهديد الذي يصل للقتل حيناً آخر، مما جعلها تدور بشكل روتيني وحتميّ في فلك القوى الّتي أنتجتها.
أما الطليعة المثقّفة المتعلّمة فتنزوي جانباً تناور ضمن الممكن والمتاح، فهي بمعظمها بدل أن تتّحد لتكون قوّة تستطيع أن تنمو مع الزمن لتشكّل فارقاً على أرض الواقع، اختارت هدر الوقت بإظهار الأنا المرضية الّتي تضخّمت من جرّاء شعورها بتميّزها عن المحيط وبالتّناحر والخلاف وبوأد كلّ بادرة حقيقيّة يمكن أن تدفع عجلة التّطوّر ولو قليلاً للأمام، وهي دائماً بحالة تراجع أو مراوحة في المكان حتّى وصلت لمرحلة الاستسلام والخضوع الكامل لمنظومة التخلّف، فصارت تدور في فلكها بشكل أو بآخر لتشكّل بذلك خطراً كبيراً مضافاً نتيجة لامتلاكها مفاتيح الثّقافة وكونها تعي الواقع وخاضت تجربة الصّراع الفكري قبل انهيارها، وبالجزء المتبقي منها تنغلق على ذاتها لأنّها في الواقع عبارة عن أفراد مضّطرين تحت ضغوط الواقع المعيشي والقلق والإنهاك الدائمين للمهادنة والانزواء جانباً. والدّليل على ذلك أنّه عند أوّل محاولة جادّة من القوى الخارجيّة المعادية معتمدة على ذيولها من أصحاب الفكر التكفيري الظّلامي والجموع التي تنساق خلفها محكومة بغريزة القطيع استطاعت النّجاح وبكلّ أسف في زجّ هذه البلدان بصراعات داخليّة مريرة ومدمّرة وطويلة الأمد لم تتّضح نتائجها حتى الآن، وأثبتت المنظومات الثقافية العربية فشلها بالارتقاء بمجتمعاتها واستشراف الأخطار المحدقة وبأن تكون على مستوى الأحداث التي تعصف بالمنطقة.
سنبقى قيد الأمل بانتظار أن تشهد مجتمعات البلدان العربية تطوّراً ثقافيّاً حقيقيّاً في المنظور القريب وترتقي عبر منظوماتها الثقافية الرسمية والأهليّة إلى مستوى هذه الصّراعات المصيريّة وتواكب ركب الحضارة والمستقبل حتّى لا تتعرّض هذه المجتمعات للعبوديّة أو الفناء، لأن الثّقافة كما قال القائد المؤسس حافظ الأسد هي الحاجة العليا للبشرية.
أمين إسماعيل حربا