انقسامات أميركا العميقة
أحمد حسن
في واشنطن، ووسط صورة الانقسام الحاد حول الانتخابات الرئاسية، ثمة إجماع وحيد اليوم: أمريكا في أزمة، لكنه، ككل أمر آخر، ليس إجماعاً مكتملاً، فهنا أيضاً يوجد اختلاف، أو خلاف، على أسباب هذه الأزمة.
جون بولتون، بما ومن يمثّل، يشير إلى “ترامب” باعتباره السبب في إلحاق الضرر بالأمن القومي الأمريكي. احتواء هذا الخطر يكون، حسب بولتون، بـ”اعتراف القادة الجمهوريون، مثلما يفعل البعض الآن، بالواقع وإدراك أن جو بايدن هو الرئيس المنتخب”.
باراك أوباما، بما ومن يمثّل أيضاً، يشير، في كتاب جديد له، إلى “انقسامات أميركا العميقة”، فهناك “أزمة متجذّرة بين رؤيتين مختلفتين لأميركا، ما هي عليه وما يجب أن تكون”، وذلك هو السبب الذي يجعل “نظامنا الديمقراطي يغرق في أزمة”.
إذاً الطرفان، بما يمثّلان مرة جديدة، متفقان على أن هناك خطراً يواجه أمريكا، لكنهما منقسّمان على سببه، وبالتالي على مداه وخطورته وكيفية مواجهته، بولتون الذي يحصر السبب بـ”ترامب” لا يرى الضرر واقعاً إلا على مصالح “المؤسسة” نتيجة انقسامها الحاد، بل تصدّعها، بسبب مكابرة الرئيس. وبالتالي الحل بالاعتراف ببايدن رئيساً. أوباما، يراه واقعاً على الولايات المتحدة ذاتها، ولأن “انقساماتنا عميقة، وتحدّياتنا رهيبة” فإن “انتخابات واحدة لن تحسم الأمر، ولن تكون مغادرة دونالد ترامب البيت الأبيض كافية وحدها لتصحيحها”، بالتالي ليس ترامب فقط سبب الأزمة، إنها، وفق أوباما، أبعد وأعمق منه.
والحق فإن الأزمة، مطلق أزمة، تكون، في جوهرها، أبعد من الأشخاص، بل قد يكون هؤلاء نتاجاً لها. “ترامب” ابن هذه المرحلة، وهي مرحلة مأزومة، وبالتالي الرجل نتاج واشنطن اليوم وصورة مأزقها، لكنه أيضاً وفي الآن ذاته مأزق للحزبين -الجمهوري والديمقراطي- معاً، فـ”الترامبية”، رغم الخسارة الانتخابية للشخص، باقية وتتمدّد، والرجل جمع أكثر من 71 مليون ناخب أميركي في انتخابات كانت تدور رحاها حول شخصه أكثر مما كانت بينه وبين منافسه، هذا تحدّ أول لحزبه الذي سيكون عليه البقاء خلف ترامب لفترة غير منظورة، وتحدّ ثان للديمقراطيين: من يستطيع تجاهل 71 مليون ناخب خاصة وأنهم لم يقرّوا حتى الآن بخسارتهم؟!.
ظهور باراك أوباما ذاته، بخلفيته العرقية، في المكتب الأبيض كان في حقيقته تعبير عن المأزق الأمريكي، أكثر مما كان تعبيراً عن مسار تطوري في الديمقراطية الأمريكية. استطراداً وفي هذا السياق، انتصار أوباما كان في حقيقته استجابة أمريكية، نخبوية وشعبية، لمقتضيات تقرير بيكر-هاميلتون الشهير والذي كان حينها محاولة جدية للخروج من المأزق.
جيمس جيفري مبعوث الإدارة الأميركية الخاص في شأن سورية، كشف مفاخراً، أن فريقه أخفى المستوى الحقيقي لوجود الولايات المتحدة العسكري في سورية، عن البيت الأبيض، أي المبعوث الخاص للإدارة كذب على الرئيس بشأن خارجي معقد كهذا. هذا تعبير آخر عن المأزق.
كل ما سبق هو تعبيرات عن أزمة، أو انعكاسات لها، فيما جوهر الأزمة يتمثّل بازدحام طريق السباق على قمة العالم بالمتسابقين، وتلك سنة الكون في الامبراطوريات صعوداً وهبوطاً. واشنطن لم تعد وحيدة، والمؤشرات كثيرة، لكن أهمها تراجع الهيبة عالمياً، وندرة الموارد الاقتصادية -الموارد الإمبراطورية تحديداً- وهي الأهم، فـ”القلة تولّد النقار”، كما يقول مثلنا الشعبي، وتظهر أسوأ ما في الأشخاص، وهذا ينطبق أيضاً على الدول، وأمريكا واحدة منها.
الرئيس المنتخب “جو بايدن” يرى أن الحل يبدأ باستعادة الإمبراطورية لاستعادة أمريكا، فريقه الرئاسي والتنفيذي المحتمل غالبيتهم مرتبطين بالمشروع الامبراطوري ودعاته مثل شركات التصنيع الحربي، أو بمراكز أبحاث تتلقّى تمويلاً من شركات التصنيع الحربي. لكن التحدّيات، داخلياً وخارجياً، كبيرة ومعقدة، ويوماً إثر آخر يصبح طريق مواجهتها أكثر صعوبة ووعورة، وأطول حتى من طريق بايدن الرئاسي ذاته. وهذا ما يفتح الباب على احتمالات متعددة نأمل ألا تكون مصبوغة بالدماء لأن الكمية الأكبر منها ستكون من أبناء العالم المقهورين في صعود الامبراطوريات وفي سقوطها.