الطغيان الأمريكي يرتدي القشرة الأيديولوجية
إعداد: علاء العطار
يتغنّى النظام الرأسمالي الأمريكي بديمقراطيته – المنحازة لمصالح الأغنياء ومعاداة الفقراء والأقليات- لكنه اليوم لم يعد يستطيع الحفاظ على هذه الصورة الكاذبة، وباتت كل أيقوناته وخطاباته مثلها كمثل أي برنامج تلفزيوني فارغ ومنفصل عن الواقع تموله الأوليغارشية الحاكمة -1.51 مليار دولار لحملة بايدن و1.57 مليار دولار لحملة ترامب– ليوهم الشعب الأمريكي أن لديه حق الاختيار. إن العراك الأجوف بين المتعجرف ترامب والمحنك جو بايدن ما هو إلا وسيلة لإخفاء الحقيقة، والفوز دوماً من نصيب الأوليغارشية، والخاسر دوماً هو الشعب الأمريكي، لذا فإن أمريكا دولة فاشلة بصرف النظر عمن يجلس في البيت الأبيض.
كتب الروائي جيمس بالارد: “ذهب الحلم الأمريكي أدراج الرياح، وتوقفت المسيرة.. انتهى الحلم، بل بات يرخي الآن بظلال كوابيسه على العالم”.
كان هناك العديد من اللاعبين الذين قتلوا انفتاح المجتمع الأمريكي، فهناك الأوليغارشيون الذين يتدخلون في العملية الانتخابية ويسيطرون على المحاكم ووسائل الإعلام بالرشوة، وكتبت جماعات الضغط التابعة لهم التشريع لإفقار الشعب الأمريكي والسماح لهم بتجميع كميات فاحشة من الثروة والسلطة غير المقيّدة، وهناك العسكريون وصناعة الحرب التي استنزفت الخزانة الوطنية الأمريكية لشنّ حروب لا طائل منها، والتي أهدرت نحو 7 تريليونات دولار وحوّلت الولايات المتحدة إلى دولة منبوذة دولياً، وهناك صناعة الوقود الأحفوري التي شنّت حرباً على العلم وفضّلت الأرباح على الانقراض الوشيك للجنس البشري، وهناك الصحافة التي حوّلت الأخبار إلى ترفيه لا هدف له وتشجيع حزبي، وهناك المثقفون الذين يدعون إلى الشمولية الأخلاقية لسياسات الهوية والتعدّدية الثقافية، بينما يديرون ظهورهم للحرب الاقتصادية التي شُنّت على الطبقة العاملة والاعتداء المستمر على الحريات المدنية، وبالطبع، هناك الطبقة الليبرالية العاجزة والمنافقة التي لا تفعل شيئاً سوى التفوّه بالهراء.
إن النخب الليبرالية هم أكبر من يستحق أشدّ أنواع الازدراء، أولئك الذين يتخذون موقف حكامهم بينما يتخلون عن كل قيمة يزعمون أنهم يؤمنون بها في اللحظة التي تصبح فيها مزعجة لهم. هلّلت هذه الطبقة لكل مرشح وحزب سياسي يميني متطرف. وحتى عندما سخر بايدين وحزبه من الليبراليين ونبذهم، واستثمر طاقته السياسية بشكل غريب في مناشدة المحافظين الجدد من الجمهوريين، كان الليبراليون منشغلين بتهميش الصحفيين الذين انتقدوا أفعال بايدن والديمقراطيين وأفعال ترامب وحزبه!.
يخلق استسلام النخبة الليبرالية للطغيان فراغاً في السلطة يملؤه المضاربون والمستفيدون من الحرب ورجال العصابات والقتلة الذين يقودهم غالباً ديماغوجيون. ويفتح الباب أمام الحركات الفاشية التي تصعد إلى الصدارة عبر السخرية والتهكم على عبثية الطبقة الليبرالية والقيم التي يزعمون الدفاع عنها. إن وعود الفاشيين خيالية وغير واقعية، لكن انتقاداتهم للطبقة الليبرالية ترتكز على الحقيقة.
إن الوباء الترامبي، بوجود ترامب أو عدمه، متأصل بعمق في الجسد السياسي، وهذا ما أوضحته الانتخابات. إنه تعبير منتشر بين شرائح ضخمة من السكان، تستهزئ به النخب الليبرالية، وهو تعبير عن الاغتراب الشرعي والغضب الذي تسبّب به الجمهوريون والديمقراطيون الذين يرفضون معالجته.
سخر فيودور دوستويفسكي من سلوك الطبقة الليبرالية غير المجدي وشجبه في نهاية القرن التاسع عشر، ورأى أنه كان يُنذر بحقبة تملؤها الدماء والأهوال، إذ كتب أن فشل الليبراليين في الدفاع عن المُثل العليا التي اعتنقوها أدى حتماً إلى عصر من العدمية الأخلاقية. وصوّر لنا في روايته “رسائل من تحت الأرض” الحالمين العقيمين المهزومين من الطبقة الليبرالية، أولئك الذين يتمسّكون بالمثل العليا ولا يفعلون شيئاً للدفاع عنها. تحمل الشخصية الرئيسية في الرواية أفكار الليبرالية المفلسة إلى أقصى حدودها المنطقية، فيتجنّب العاطفة والغرض الأخلاقي، وهو عقلاني، ويتأقلم مع هيكل سلطة فاسد يُحتضر باسم المثل الليبرالية. إن نفاق هذا الإنسان القادم من تحت الأرض يحكم على الولايات المتحدة بسوء الخاتمة، إنه الانفصال القاتل بين الإيمان والعمل.
جاء في الرواية على لسان بطلها: “لم أتمكن من أن أصبح ذا شأن، لا طالحاً ولا صالحاً، لا شقياً ولا نزيهاً، لا بطلاً ولا حشرة. والآن أعيش حياتي في زاوية اخترتها، أسخر من نفسي بأن أواسيها بمواساة ضغنة وعقيمة تماماً أنه يستحيل على رجل ذكي أن يصبح أي شيء بحق، وأن الحمقى فقط يصبحون ذوي شأن. أجل يا سادة، يجب على إنسان القرن التاسع عشر الذكي أن يكون كائناً واهناً عديم الشخصية وهو ملزم أخلاقياً بذلك”.
إن الطبقة الليبرالية ترفض الاعتراف بأن الشركات انتزعت السلطة من المواطنين، وبأن الدستور وضماناته للحرية الشخصية قد ألغيت بأمر قضائي، وبأن الانتخابات ليست أكثر من استعراض فني أجوف نظمتها النخب الحاكمة، وبأن الشعب، الطرف الخاسر من الحرب الطبقية، تركها تتحدث وتتصرف بطرق لم تعد تتلاءم والواقع.
إن “فكرة الكفاءة الفكرية”- التي أشار إليها إيرفينغ هاو في مقالته لعام 1954 بعنوان “عصر الامتثال”، هي “فكرة الحياة المكرسة للقيم التي لا يمكن أن تحققها الحضارة التجارية- فقدت جاذبيتها تدريجياً. وهذا الذي يشكل هزيمتنا، وليس التخلي عن برنامج معين”. كتب هاو أن الاعتقاد بأن الرأسمالية هي المحرك الذي لا يمكن تعويضه للتقدم البشري “يُروج له من خلال كل وسيلة اتصال: الدعاية الرسمية والإعلان المؤسساتي والكتابات البحثية لأشخاص كانوا، حتى سنوات قليلة مضت، من خصومها الرئيسيين”، وأضاف: “الضعفاء حقاً هم هؤلاء المثقفون -الواقعيون الجدد- الذين يعلقون أنفسهم بمقاعد السلطة، فيتنازلون عن حريتهم في التعبير دون اكتساب أي أهمية كشخصيات سياسية.. لأنه من المهمّ لتاريخ المثقفين الأمريكيين في العقود القليلة الماضية -وكذلك العلاقة بين “الثروة” و”الفكر”- أنه عندما يجري استيعابهم في المؤسسات المعتمدة للمجتمع، ألا يفقدوا طبعهم المتمرد فحسب، بل أن يتوقفوا إلى حدّ ما أو آخر عن العمل كمثقفين”.
يمكن أن يتحمّل الشعب الأمريكي قمع الطغاة، طالما استمر هؤلاء الحكام في إدارة السلطة، لكن التاريخ البشري أظهر بوضوح أنه ما إن يصبح من هم في مواقع القوة زائدين عن الحاجة وعاجزين، ويحتفظون بالرغم من ذلك بزخارف وامتيازات السلطة، سيُطاح بهم بوحشية.
والأمريكيون يمرون في ذلك، إذ إن نظام الرعاية الصحية الهادف للربح -وليس رعاية المرضى- غير مجهز للتعامل مع أزمة صحية وطنية. أمضت شركات الرعاية الصحية العقود القليلة الماضية في دمج وإغلاق المستشفيات، وقطع الوصول إلى الرعاية الصحية في المجتمعات الأهلية في جميع أنحاء البلاد لزيادة الإيرادات، ولا يزال ما يقرب من نصف العاملين في الخطوط الأمامية لا يحصلون على أجر مرضٍ، وفقد نحو 43 مليون أمريكي تأمينهم الصحي. إن الجائحة، من دون رعاية صحية شاملة، واليوم ليس لدى بايدن والديمقراطيين أو ترامب والجمهوريين أي نية في تأسيسها، وهي ستستمر في الخروج عن نطاق السيطرة. وبحلول الوقت الذي يصبح اللقاح فيه متاحاً بشكل آمن، سيكون مئات الآلاف، وربما بضعة ملايين، من الأمريكيين قد قضوا نحبهم، أو قتلوا بعبارة تصيب الصميم في هذه الحالة. كما أن التداعيات الاقتصادية للوباء ونقص التشغيل المستمر والبطالة ستؤدي إلى كساد لم تشهده البلاد منذ الثلاثينيات، إذ تضاعف الجوع في الأسر الأمريكية ثلاث مرات منذ العام الماضي، ونسبة الأطفال الأمريكيين الذين لا يحصلون على ما يكفي من الطعام أعلى 14 مرة من العام الماضي، وترى الأمريكيين يجتاحون بنوك الطعام، ورفع الحظر المفروض على غلق الرهن العقاري وعمليات الإخلاء بينما يواجه أكثر من 30 مليون أمريكي معدم احتمال إلقائهم في الشارع.
ستشهد الولايات المتحدة اضطرابات اجتماعية حتمية، بغضّ النظر عمن يجلس في البيت الأبيض، وسيستخدم النظام أدواته الأساسية الثلاث لإحكام قبضته على المجتمع الأمريكي: المراقبة الشاملة والسجون والشرطة العسكرية، مدعوماً بنظام قانوني يلغي بشكل روتيني أمر الإحضار للمثول أمام المحكمة والإجراءات القانونية الخاصة به، لسحق المعارضة بلا رحمة. وسيلقي هؤلاء الفاشيون باللائمة على الملوّنين والمهاجرين في تدهور الأمة، وسيكمّمون أفواه القلة الذين يستمرون بفضح جرائم دولة الشركات والإمبراطورية.
إن عقم الطبقة الليبرالية، التي تخدم مصالح حزبين يغذي مشاعر الخيبة الواسعة والإحساس بالخيانة اللذين جعلا نحو نصف الناخبين يدعمون أحد أكثر الرؤساء فساداً وسوقية وعنصرية في التاريخ الأمريكي. يبدو أن الطغيان الأمريكي، الذي يرتدي القشرة الأيديولوجية للفاشية المسيحية، سيحدّد الانحدار التاريخي للإمبراطورية!.