جَلْوة
عبد الكريم النّاعم
جاء صديقي الذي أرجو الله أنْ لا يفرّقَ بيني وبينه، وفور جلوسه مطّ رقبته باتّجاه أوراق مُبعثرة فوق طاولتي، وأراد أن يمدّ يده إليها ليلتقط واحدة ليقرأ ما فيها:” نتَرْتُ الورقة من يده وقلت له بشيء من الجَفْوة: “هذا أنت، كاد أن ينتهي عمرك، ولم تستطع الإقلاع عن هذه العادة السيّئة”
قال بطريقة تثير الغضب: “إي شو هيّي أسرار البيت الأبيض”!
قلت:”…الأبيض، الأحمر، لا يهمّ، المهمّ أن لا تتطفّل على ما بين يدي”
قال بطريقة تدعو للاستفزاز: “يا رجل، أعرفك من الأوّل إلى الياء، فلماذا هذه الحدّة”؟!
قلت: “تعرفني وأعرفك، ولكنّني أعتبر بعض الأشياء من خصوصياتي”.
قاطعني: “أية خصوصيات، أنت تنشر ما تكتبه”.
قلت: “هذا صحيح، ولكنني أعتبرها من خصوصياتي حتى أنشرها، وحينئذ تكون قد خرجتْ من يدي، وأنا الذي أخرجْتُها”.
قال وهو يُشعل سيكارته: “أوّلمْ تملّ من الكتاب؟! النّاس ملّت من حمْل جلْدها”؟!
قلت: “وقد هدأ فوران غضبي المكبوت قليلاً: “لولا هذه الكتب لربّما طقّ عقلي، لا أدري مَن الذي قال ما معناه مَن قرأ كتب السالفين شاركهم في أعمارهم، وصدّقني أنّني لا أرغب أن أشارك أحداً في عمره، ولكنّني قد أجد فكرة هنا، أو لمْعة هناك، وبارقةً في مكان ثالث، وصورة شعريّة في هذه النّاحية مضت عليها مئاتٌ من السنوات وهي ما زالت تشعّ كالجوهر الذي لا يخبو بريقه، فآنس بها في زمن قاتم، بل بالغ الوحشة”.
قال: “هل لك الآن أن تُطلعني على ما في تلك الورقة التي كادت أن تُشعل الحرائق بين وبينك”؟
قلت: “حُبّاً وكرامة، في هذه الورقة شيء من الوَحاشة والوحشيّة، تصوّر أنّني كنتُ أفرّ من وحشة ما أنا فيه، فطالعتْني الحالة التالية، وهي تتحدّث عن زمن استعباد الأثرياء في روما، في زمن ما قبل القرون الوسطى، وهو زمن بالغ الشّناعة، ولكنّه لم يخلُ من أناس أُضيئت قلوبهم بنور الحقّ والحقيقة، فشعّ الكلام في أفواههم نجوماً من أحرف ساطعة، (تيبريوس) الروماني، نظر فيما حوله فرأى الأكثريّة من العبيد الذين لا حقوق لهم، يعملون ليل نهار، فما يحصلون على القوت الضروريّ، لا بيوت لهم، وإذا وُلد لأحد منهم ولد فهو عبد منذ ولادته يبيعه (سيّده) ساعة يشاء كأي سُلْعة ساقطة، فاستنكر تيبريوس الروماني هذا الحال وخطب في أصحاب الثروة، والمال، ومُلاّك العبيد فقال (ما هذا؟! للوحوش الضَارية مآوٍ تلجأ إليها، وأولئك الذين يُريقون دماءهم من أجل إيطاليا لا يملكون غير الهواء الذي يستنشقونه، فلا سقف يُظلّهم، ولا مأوى ثابت يسكنون إليه، بل يهيمون على وجوههم في الأرض هم ونساؤهم وأطفالهم، إنّهم لا يحاربون ولا يموتون إلاّ لكي يغذّوا بَذْخَ وإسرافَ قلّة من الناس يسمّونه سادة الأرض، ومع ذلك لا يملكون من حُطام تلك الأرض حفنةً من تُراب).
قال متعجّبا ومتألّماً: “يا إلهي كم مرّ على هذه البشريّة من مرارات لا تُحتمل”؟!
قلت: “وهذا الذي مهّد لقيام الثورات والانتفاضات”.
قال: “العصر الذي تتحدّث عنه كان شديد الحُلْكة”.
قلت: “وهو الذي هيّأ أن يكون في نصوص القانون الجزائي الروماني النصّ التالي، بعد نقلة نوعيّة في حياة ذلك المجتمع، فقد جاء فيه: (ليس لأحد أن يطلبَ منك حساباً عن إيمانك، والقانون لا يُجبر أحداً على مزاولة عبادة ما ، فالرجل الإباحيّ الذي يُنكر وجود القضاء- يعني القضاء والقدر فيما فهمت- يعيش في سلام إلى جوار المتعبّد).
قال مرتاحاً: “هذه لمْعة من لمعات التقدّم الحضاري الذي تطمح إليه الصفوة من متنوّري بلدان العالم الذي نشروا اليوم في جنباته تلك الزنابير المسمومة المجنونة، المحقونة بالأفيون الصهيوأمريكي،” وتابع:”… ما أشبه الأمس باليوم”…
……………………………………….
الجمل بين قوسين مأخوذة من كتاب:
بين عليّ والثورة الفرنسية- جورج جرداق- ص28- منشورات دار الحياة 1970
aaalnaem@gmail.com