في حضرة الغياب؟
د. نهلة عيسى
يومان كاملان مضيا على رحيلك, على هجرتك, واليوم بداية سلسال اليوم الثالث, فهل تصدق أنت!؟ حتى نصدق نحن؟! وليد المعلم, والاسم هنا فعل, صوتك كان ظهرنا, وهدوءك الرباني, الذي كنا نتعامل معه باعتباره يقيناً منك بالنصر, كان ككبكوبة الصوف التي نحيك منها معاطف الأمل بأن الغد وعد, وبأن القادم وإن تأخر سيعيد فناجين قهوتنا وعلب سجائرنا, ووشوشاتنا وأسرارنا الصغيرة إلى شرفات قاسيون, حيث يعلن الحب بعيداً عن العيون.
يومان على رحيلك, شيء ما تغير, ولا شيء تغير, فما زلنا نحن والوطن على درب طويلة من الوجع نهيم على وجهينا في الشوارع والأزقة والحارات ومقاهي غربة الروح, نستجدي قرش فرح أو قرش فرج, ونتسول من أبواب النسيان أقراصاً للتخدير, عسى القلب يدخل في غيبوبة, فتُسدل على كل الخيبات ستائر شفافة شبيهة بالأمل, توهم بأفق لا تغطيه غيوم ولا رعود ولا رياح صفراء, ولا وعي فاجر, يرمينا فوق أرصفة انتظار ملامح باهتة تبدو وتغيب لسفينة سلام, نتوهم اقترابها من موانئ الوطن!؟
يومان يا معلم على رحيلك, وأنا ووطني لا نستوعب ولا نقبل رحيلك, ولا رحيل كل من رحلوا في السنوات العشر, ونحتمي بالصور القديمة, وبصوتك بارداً, ساخراً من الأكاذيب, لكي لا نفقد صوابنا, لأن الفقد بات فوق طاقة الطاقة, رغم أن الموت في بلادنا بات ترفاً, ولذلك موتنا لم يعد هو القضية, لأن القضية: هي كيف يمكن أن نعيش, فما رأيك؟, أليس الرحيل – بالموت- من مخيم قهرنا وبؤسنا, وسام عز من رب كريم!؟.
يومان وموتك يغضبني, ولا أعرف لماذا يغضبني, بل لا أعرف عندما سمعت به لماذا دخلت إلى سيارتي واحتميت, وكأنه هروب, والحقيقة أنني منذ سنوات أمارس الهرب, أهرب من الحزن, فيسوّرني الحزن على الوطن حتى ثمالة الثمالة, فأقف حتى في أحلامي أحامي عن وجوده وحدوده وسلامه, بكل ما أستطيع, أو أتوهم أني أستطيع, وأعرف أني بذلك أحامي عن قبور من أحب, وقد بات قبرك من هذه القبور, وعن الزمان الذي مضى في الزمان, ولكنه لم يمض من القلب, وعن الأصوات التي همست لنا يوماً, وعن روائح طيب من رحلوا, ولم تستطع كل الرشاوى التي قدمها العالم, شراء ذاكرتنا.. لننساهم!؟.
يومان يا معلم, والوجع ما يزال في أوجه, ونحن والوطن, وبدون كلمات محشورة في رداء الرياء والادعاء, وبتاء التأنيث وجمع المذكر, نقطب بالدموع.. الجروح, ونكفكف بالتحدي.. الأسى, ونرد على رحيلك, بتذكر إصبعك المرفوعة في وجه “كيري”, كنوع من الاحتفاء بك وكأنك موجود, وأيضاً من الشوق إليك, ونلامس بحنان وخشوع, بلاط أرصفة “المزة” لكي لا نزعجك, ونفتح النوافذ والجحور والصدور, ونتكلم بالصوت العالي, لنزيل وحشتك!؟
يومان يا جليل, زاد حبنا فيهما لدمشق, لأنك دمشقي أصيل, يومان أجبرنا فيهما رحيلك على استعادة وجه الوطن بعيداً عن الطوابير, وعن رياح الشمال الصفراء, وعن كل ما جرى وكان, وبعيداً عن أنك كنت سفيراً, ووزيراً, لأن الحكاية كما بدت بعد الرحيل, أكبر من ذلك بكثير, فقد كنت أيقونة سورية, باسماً, شامخاً كما نريد, متعففاً, متيقناً, موسداً الوطن في صدرك أينما ذهبت وحللت, غير متنازل, ولا مهادن, ومترفع عن الخوض في السجالات عن من، وماذا، ولماذا؟ لأنه من وجهة نظرك عندما يدخل الوطن غرفة الإنعاش, إنقاذه حتمية لا تحتمل التوقف للإجابة, رغم أهمية الأسئلة وضرورة الإجابة, ولعلك عندما شعرت أنك فعلت ما استطعت لكي ينجو الوطن.. رحلت, رغم أننا يا معلم ما زلنا لسنا بخير!؟, ولكن أرجوك.. دائماً طمئنا عنك.