قبل.. بعد
د. نضال الصالح
ليس من هواجس المثقّف البحث عن مكانة وحضور يخصّانه، وليس ممّا يؤرّقه أن يملأ الدنيا صخباً حوله وعنه، وأن يشغل الناس بما يعنيه وحده، بل أن ينجز النصّ الذي يكون له دوره في الإعلاء من شأن الوعي، ومن قيم الحقّ والخير والجمال، وقبل ذلك، ودائماً، أن يثير الأسئلة أكثر ممّا يقدّم إجابات. الثقافة فعلٌ على مستويين، أو في اتجاهين: جماليّ ومعرفيّ. يثمّر أوّلهما ما اصطلح «سانتيانا» عليه بالإدراك الجماليّ، واللذة الجمالية، أي الإحساس بالجمال، وتذوّقه، وينهض ثانيهما بدور المنوّر بالواقع من أجل وعي هذا الأخير وتغييره نحو ما يجعله إنسانياً بامتياز، وخالصاً من دنس القيم السالبة للإنسانيّ في الإنسان.
النصّ، شكلاً ومحتوى، هو ما يبقى خالداً في ذاكرة قارئه، وهو ممكن الخلود بالفعل لا بالقوة، وبنفسه لا بالصخب الذي يصنعه منتجه له، أو لنفسه، أو من خلال الموقع الذي يمكن أن يشغله في هذه المؤسسة الثقافية أو تلك، فالموقع، أيّ موقع، طارئ في الزمان والمكان، وما يبقى هو النصّ، بل ما يخلد هو النصّ. وفي تاريخ الثقافة، وفي سورية على سبيل المثال، غير اسم ممّن «ملأ الدنيا وشغل الناس» بسبب موقعه في هذه المؤسسة الثقافية أو تلك، لا بسبب منجزه، ولذلك، وما إن غادر ذلك الموقع، حتى غادر ذاكرة الناس، بل حتى غادر الحياة الثقافية إلى غير رجعة، ولذلك أيضاً يصحّ وصف كلّ منتم إلى هذه الظاهرة بهذين الاختزالين: «خ، م» و«ب، م»، أي خلال الموقع، وبعد الموقع.
لقد جاء زمن على الثقافة العربية، ومنها السورية، بدت فيه ومعه مرهقة بالزيف والزائفين من «مالئي الدنيا وشاغلي الناس» بموقعهم وحده لا بموقع منجزهم، وقيمته، وتأثيره، ومن المؤسف أنّ هذا الزمن لمّا يزل يستطيل بمخالبه نحو جسد هذه الثقافة، فيمعن فيه زيفاً وتزييفاً للحقيقة، حقيقة النصّ الذي يمتلك بنفسه أسباب خلوده، والذي لا يفنى برحيل منتجه عن هذا الموقع الذي جاءه على غفلة من تلك الحقيقة، فحلبه، أي الموقع، حتى أدمى ضرعيه، وحتى أدمى الحقيقة نفسها، فتشققت، ثم تيبست، ثم كأن لم تكن. وبعد، فإذا كان الاختزالان المشار إليهما آنفاً واقعيين بامتياز، فثمة اختزال ثالث شديد الصلة بهما، هو «ق، م»، و«ب، م»، أي قبل الموقع وبعد الموقع، وإلى الحد الذي تبدو الاستعارة من علم النحو معه واقعاً وليست استعارة فحسب، أي النكرة والمعرفة، فلطالما كان غير قليل ممّن تمّ وصفهم كتّاباً وأدباء قبل الموقع الذي مضت المصادفة بهم إليه نكرات، فأصبحوا من خلاله معارف، ثمّ عادوا، برحيلهم عنه، نكرات.
نكرة، فمعرفة مجازاً، فنكرة، ذلك هو مسار كلّ من وسوس شيطان الزيف له أنّه «مثقّف»، وذلك هو واقع الحال الذي يدفع شبه المثقف إلى التمسك بموقع اغتصبه عنوة عن الثقافة، أو جيء به إليه بإرادة لا يعنيها من أمر الثقافة سوى ما يعنيها وحدها، لأنه على يقين بأنه “ب، م” لا يساوي شيئاً.