ناظم مهنا و”القصّ العربي القديم” للتنوخي
اختار الأديب ناظم مهنا مقتطفات مما دوّنه التنوخي- في” نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة” ضمن سلسلة ثمرات العقول الصادرة عن وزارة الثقافة –الهيئة العامة السورية للكتاب -بعنوان فنّ القصّ العربي القديم. إذ أورد في المقدمة جزءاً من سيرة القاضي أبي علي المحسن بن علي التنوخي من أعلام القرن الرابع الهجري الذي ولد في البصرة عام 940م وتوفي في بغداد عام 994م، عمل والده قاضياً لعضد الدولة البويهي وصنف بأنه من أعلام النثر العربي القديم وصاحب طريقة في الأخبار، ويمتاز ببراعة وتناغم وفرادة أخباره، وقد استمر بتأليف هذا الكتاب قرابة عشرين سنة.
مقاربة مع القصة الحديثة
رأى مهنا في مقدمة الكتيب أن فن القص عند التنوخي يقترب من سمات القصة الحديثة، إذ أعادت القصة الحداثية للخبر القصصي مكان الصدارة، فالقصة تروى خبراً أو حكاية أو مجموعة أخبار لها وحدة مركزية يربط بينها رابط نفسي أو تصويري أو معنوي، وفسّر الخبر في اللغة بأنه ما ينقل أو يُحدث به قولاً وكتابة، وقد تنوعت أساليب الإخباريين العرب بين التعقيد والبساطة والمحسنات البديعية أو خلوها.
ديناميكية القصة
واستحضر المؤلف أقوال مجموعة من الكتاب والناقدين في هذا الكتاب، منها ما كتبه المستشرق الروسي” فلشتينسكي بأن التنوخي في النشوار قدم نوعاً خاصاً من الحكاية العربية من نخبة أهل المعرفة ومن الأدب الشعبي القائم على الأساس الفلكلوري التقليدي. فبعض الشخصيات من الخلفاء والأمراء والقضاة والشعراء وفي بعض القصص من الحمقى والفقراء، ليخلص فلشتينسكي “حين نطالع هذه القصص والحكايات والأخبار نشعر كأننا حاضرون في المجلس الذي تدور فيه الأحاديث” ويرى أن قوة المشهدية الوصفية السردية ودقة التصوير والمقدرة على نقل الوقائعية، تمنح هذه الحكايات ديناميكية فعالة وتجعل تأثيراتها ممتدة حتى عصرنا الحالي. كما استحضر ما قاله المستشرق السوفياتي ليخاتشوف بأن أقاصيص التنوخي تعبير عن تيار غير منتظم من الحكايات غير الموصولة بنظام، لا من حيث الموضوع ولا من حيث خاتمتها الأخلاقية أو عبرتها أو عظتها. ليصل إلى أن فيها كسراً للرتوب، فهي مجموعة أخبار متناثرة في المكان والزمان والموضوع يوحد بينها الشكل ويتنوع الموضوع، وهذا يشبه المجموعات القصصية الحديثة.
تداخل الشعر بالسرد
وقد نوّع مهنا بخياراته للمقتطفات من حيث الشكل والمضمون وإن اتفقت جميعها على تناقل الخبر بإسناده إلى راو حرصاً على المصداقية والواقعية، وتتصف بالبساطة في سياق السرد مع عنصر التشويق، ففي قصة “متُ عشقاً” التي وصلت إليه بالتناقل “أنبأنا محمد بن عبد الباقي البزاز، قال: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، قال: أنبأنا أبو عمر بن حيوية، قال أنبأنا محمد بن خلف، قال: وجدتُ في كتاب بعض إخواني من أهل العلم، قال: حدثنا زكريا بن إسحق….وتابع سرد حكاية الفتى الذي وقع بغرام جارية من الطائف وهو ابن صاحب البضاعة، فنحل جسمه ولزم الوحدة ورفض البوح باسم الجارية حتى مات عشقاً.
” والشوق قد شفّ جسمي /وليس يخلق بالي/فلو رآني عدوي/لرقّ لي ورثى لي”
مشهدية حوارية
وفي قصة” دجاجة الملك” نستشف عبرة من ذكاء الملك وتفقده أبسط الأمور. وبدأت بتأكيد السمع: “سمعتُ أبا عبد الله بن أبي موسى الهاشمي يقول..” إلى أن وصل إلى سرد قصة الدجاجة التي قُدمت للملك ليأكلها “فجاؤوه بدجاجة مشوية ورغيف واحد وسكرجتي ملح وخل وقليل بقل. و”السكرجة” تعني الإناء الصغير. ويتابع السرد وصف الحادثة مع الحوار الدائر بين الملك والطباخ، إذ أكل الملك جزءاً من الدجاجة ثم أمر برفعها حينما حضر قوم، ثم طلب ردّ الطبق “فتأمل الدجاجة ساعة ثم حرد” واستدعى الطباخ الذي اعترف بأنه اعتقد أن الملك لم يعد يرغب بمتابعة تناول الدجاجة فأكلها الغلمان الصغار وحينما أمر الملك برد الطبق، أحضروا دجاجة أخرى وكسر منها ما كسره الملك، إلا أن الملك كشفه “تلك كنتُ قد كسرت منها الفخذ الأيمن وأكلت جانب الصدر الأيسر، وهذه مأكولة جانب الصدر الأيمن، مكسورة الفخذ الأيسر، لا تعاود بعدها لمثل هذا”.
ولا تقتصر جمالية القصص على التشويق مثل “في يوم واحد، قتل الطباخ، يدعو الله أن يوقف المطر، الملاح القاتل” فقط إذ يستفيد القارئ منها توليد المفردات والأساليب النحوية مثل تأخير الفاعل.
ملده شويكاني