تكتّل “الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة” انتصار للتعدّدية والتجارة الحرّة
د. معن منيف سليمان
دشّنت خمس عشرة دولة تكتلاً تجارياً هو الأكبر من نوعه عالمياً: عشر دول من جنوب شرقيّ آسيا، إضافة إلى كلّ من كوريا الجنوبية، والصين، واليابان، وأستراليا، ونيوزيلندا. ويحمل هذا التكتل التجاري الجديد اسمَ الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة (R.C.A.P). ويغطّي نحو ثلث الاقتصاد العالمي، ويدعم بشكل كبير مجموع الناتج المحلّي الإجمالي لأعضاء الاتفاق، ويعدّ انتصاراً للتعدّدية والتجارة الحرّة، ويعزّز مكانة الصين على الساحة التجارية العالمية، ويضعها في مكانة أفضل لصياغة قواعد التجارة في المنطقة.
وقِّع الاتفاق على هامش قمّة افتراضية لآسيان ترأستها فيتنام، في الوقت الذي يناقش فيه قادة آسيويون التوترات في بحر الصين الجنوبي، ويضعون خططاً للتعافي الاقتصادي في المنطقة بعد جائحة كورونا، حيث تحتدم المنافسة بين الولايات المتحدة والصين. ويبدو أن تراجع زخم سوق النفط في السنوات الأخيرة التي كانت تشكّل بوصلة للتوازن في النظام التجاري العالمي شكّل دافعاً لقيام هذا التحالف التجاري العالمي الضخم.
ويسلّط بعض المحلّلين الضوء على معطى مهمّ دفع إلى تكوين هذا التكتل، وهو تذبذب سوق النفط العالمية وضعف الإقبال عليها في السنوات الخمس الأخيرة بسبب تباطؤ النمو العالمي، حيث كانت قوة اتزان بين الدول، واللافت أن ما كان يعيبها هو قواعد لضبط التجارة الدولية.
كان الهدف من إنشاء منظمة التجارة العالمية هو تقليص الحواجز الجمركية بين دول العالم، وتوحيد القواعد الحاكمة لحركة التجارة والاستثمار بينها، مع الاتفاق على آليات مشتركة لتسوية المنازعات وفرض القواعد، من أجل تشجيع حركة التجارة والاستثمار عبر الحدود.
وعلى الرغم من أن اتفاق “الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة” لا يضاهي اتفاق “الشراكة عبر المحيط الهادئ” من حيث الشمول وخفض التعاريف الجمركية، يعتقد العديد من المحلّلين أن حجم الاتفاق الجديد وحده يجعله أكثر أهمية.
يقول راجيف بيسواس، كبير الاقتصاديين لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ في مجموعة آي إتش إس: “تشتمل عضوية الاتفاق على مجموعة أكبر من الدول، أبرزها الصين، بما يدعم بشكل كبير مجموع الناتج المحلي الإجمالي لأعضاء الاتفاق”.
وينصّ الاتفاق على بنود تتعلّق بالملكية الفكرية، والاتصالات التقنية، والخدمات المالية، والتجارة الإلكترونية، والمهن الحرة، لكن الأثر الأكبر بحسب التوقعات سيكون للفقرة المتعلقة بـ “قواعد المنشأ” التي تحدّد هوية المنتج.
وقال رئيس الوزراء الصيني لي كه تشيانغ: “إن توقيع اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية يعدّ انتصاراً للتعدّدية والتجارة الحرة”. وأضاف: “يظهر بوضوح أن التعدّدية هي الطريق الأمثل والاتجاه الصحيح لتقدم الاقتصاد العالمي والبشرية”.
وقال رئيس وزراء فيتنام، تغوي نشوان فوك: “إن الاتفاق يمثّل أكبر اتفاقية للتجارة الحرة في العالم، وسترسل رسالة قوية تؤكّد الدور الرائد لرابطة أمم جنوب شرقي آسيا في دعم النظام التجاري متعدّد الأطراف، وخلق هيكل تجاري جديد في المنطقة”.
والاتفاق هو الأول الذي تنضمّ بموجبه قوى شرقي آسيا -الصين واليابان وكوريا الجنوبية- إلى اتفاق تجارة حرّة واحد. ويعدّ هذا التكتل التجاري أكبر من نظيره الذي يضمّ الولايات المتحدة، والمكسيك، وكندا، وأكبر أيضاً من التكتل التجاري للاتحاد الأوروبي.
ويقدّر معهد “بيترسون” للاقتصاد الدولي أن يثمر الاتفاق عن زيادة الدخل القومي العالمي بمقدار 186 مليار دولار سنوياً بحلول عام 2030، فضلاً عن إضافة 0.2 بالمئة إلى اقتصاد الدول الموقّعة. ويعتقد بعض المحلّلين أن يفيد الاتفاق كلاً من الصين، واليابان، وكوريا الجنوبية أكثر من دول أخرى موقّعة.
ويقول الخبير الاقتصادي نيك مارو: “قد لا تتعدّى الفوائد الاقتصادية للاتفاق أن تكون هامشية بالنسبة لدول جنوب شرقي آسيا، لكن هناك مكاسب يمكن أن تحرزها دول شمال شرقي آسيا جراء الحركة التجارية والتعاريف الجمركية”.
إن الاتفاق التجاري الجديد يمثّل ثورة بالنسبة للصين التي تعدّ أكبر سوق في المنطقة مع أكثر من 1.3 مليار مستهلك، ما يسمح لبكين بأن تعدّ نفسها على أنها “بطل العولمة والتعاون متعدّد الأطراف”، ويعطيها تأثيراً على القواعد التي تحكم التجارة الإقليمية، حسب خبراء اقتصاديين. وقد تعزّز الشراكة وضع الصين كشريك اقتصادي لجنوب شرقي آسيا واليابان وكوريا، إذ تضع ثاني أكبر اقتصاد في العالم في مكانة أفضل لصياغة قواعد التجارة في المنطقة.
ويقول خبراء: إن اتفاق الشراكة الاقتصادية يساعد بكين على تقليص الاعتماد على أسواق وتكنولوجيا الخارج، مع الإشارة إلى أن الخلافات المتزايدة مع واشنطن عجّلت بهذا التحوّل.
إن اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة تشكّل نوعاً من “السلام الصيني” (باكس سينيكا)، وهو مصطلح تاريخي يشير إلى الحقب التي ساد فيها السلام منطقة شرقي آسيا بقيادة الصين، وتؤسّس لعصر جديد من القوة، حيث ستربط المنطقة بنظام عالمي تقوده الصين.