أزمة تيغراي.. صراع مسلّح وتبعات خطيرة
د.معن منيف سليمان
تفاقمت العمليات العسكرية بين حكومة أديس أبابا وما يسمّى “جبهة تحرير شعب تيغراي”، ووصلت حدّ الاشتباك المسلّح بين الطرفين، وسط مخاوف من انجرار إثيوبيا إلى حرب أهلية قد تسفر عن انفصال الإقليم عن الدولة المركزية، وما يترتب على ذلك من تبعات خطيرة قد تعصف بكل دول القرن الأفريقي، بسبب التداخل الإثني والجغرافي وارتباطها الوثيق فيما بينها.
يمثّل إقليم تيغراي، أحد أقاليم إثيوبيا العشرة، ويمثل سكانه نحو 6 بالمئة من مجموع سكان البلاد، الذين يتجاوز عددهم نحو 100 مليون نسمة، يتوزّعون بين نحو 80 مجموعة إثنية.
وتعدّ “الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي” أبرز تنظيم مسلّح ظهر منذ ثمانينيات القرن المنصرم، عندما تردّت الأوضاع إبان حكم الرئيس منغستو هايلي ماريام، ذو التوجهات اليسارية، وأدّت لانتشار مجاعات ذهب ضحيتها نحو 8 ملايين من سكان البلاد.
وظلّت المجموعات المسلّحة التي كانت تنتمي لقومية محدّدة تقاتل عبر عمليات صغيرة، والاستثناء الوحيد كان هو الجبهة الشعبية لتيغراي، حيث كانت أكثر تنظيماً، ولديها تحالفات خارجية أبرزها التحالف مع “الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا”.
وفي عام 1988، عقد مؤتمر لـ “المعارضة” داخل الأراضي السودانية، ضمّ ممثلين عن أربعة عشر تنظيماً إثيوبياً مسلّحاً، وأعلنت هذه التنظيمات أنها ستقاتل موحدة لإسقاط منغستو، وأعطيت قيادة التحالف لتيغراي، لأن قواتهم كانت الأكثر تدريباً وتسليحاً وتنظيماً.
واستمرّ التحالف يقاتل على مدى ثلاثة أعوام، وعندما اقترب من الإطاحة بمنغستو عام 1990، عقد مؤتمر لندن للمعارضة الإثيوبية برعاية أمريكية بريطانية من أجل تنظيم المجموعات المعارضة تحت لافتة واحدة، ليتفق المؤتمرون مجدداً على قيادة تيغراي للتحالف على الرغم من وجود قيادات تقليدية لمجموعات قبلية بين المشاركين إضافة للقوات العسكرية والسياسية.
وبعد عدّة أشهر دخلت قوات تحالف جبهة شعوب إثيوبيا، واستولت على الحكم ونصّب تاميرات لاينه رئيساً للبلاد في 28 أيار1991، وهو من قومية التيغراي، ثم خلفه مليس زناوي في 1995، عقب إجازة دستور جمهورية إثيوبيا الفدرالية.
وشغل زناوي المنصب حتى وفاته عام 2012، ما جعل التيغراي يحكمون إثيوبيا على مدى أكثر من 20 عاماً تحت راية تحالف يسيطرون على مفاصله، إضافة إلى أن مليس زناوي استطاع السيطرة على التناقضات داخل التحالف ما جعل حتى الذين يتذمّرون من سيطرة التيغراي من المجموعات الأخرى يكتمون الأمر، ولم تظهر الحالة الاحتجاجية على سيطرة التيغراي إلا بعد وفاة زناوي وانتخاب سلفه هايلي مريام ديسالين، الذي ينتمي لمجموعة تحالف شعوب جنوبي إثيوبيا.
تعود الأسباب القريبة للصدام المثير للقلق في إثيوبيا بين الحكومة الفدرالية والحزب الحاكم في منطقة تيغراي الشمالية إلى احتجاجات الشارع التي أطاحت بالحكومة السابقة التي كانت تهيمن عليها “جبهة تحرير شعب تيغراي” في عام 2018.
وعندما أصبح آبي أحمد رئيساً للوزراء في نيسان 2018، وهو أول رئيس حكومة من عرقية أورومو، الأكبر في البلاد. وباستلامه فقد التيغراي مناصب وزارية وبعض المناصب العسكرية العليا.
وحاز آبي أحمد على جائزة نوبل للسلام في تشرين الأول 2019، لدوره في إحلال السلام مع إريتريا، وإنهاء حالة الجمود المريرة التي تعود إلى حرب حدودية بين عامي 1998-2000، ولكن الأمور كانت أقل هدوءًا على الصعيد الداخلي.
وبعد أسابيع من فوزه بجائزة نوبل، رفضت جبهة تحرير شعب تيغراي الانضمام إلى الحزب الحاكم الجديد لآبي أحمد، الذي أطلق عليه اسم “حزب الرخاء”، متذمرة مما عدته تهميشاً واستهدافاً غير عادل عبر تحقيقات في شأن الفساد. وعاد قادة جبهة تحرير شعب تيغراي إلى منطقتهم، ليتهمهم آبي أحمد بمحاولة زعزعة استقرار البلاد.
وعندما قرّرت الحكومة المركزية تأجيل الانتخابات التي كان مقرّراً إجراؤها في شهر آب 2020، على خلفية فيروس كورونا على الرغم من احتجاجات المعارضة، بدون تحديد موعد جديد. قرّر إقليم تيغراي تحدّي سلطات آبي أحمد من خلال المضي في إجراء الانتخابات الخاصة به في 9 أيلول الماضي، وصنّفت أديس أبابا حكومة تيغراي بأنها غير قانونية، في حين لم يعد قادة تيغراي بدورهم يعترفون بإدارة آبي أحمد لأن ولايته انتهت.
وأثار التصويت مخاوف من أن الجبهة كانت تمهد الطريق لإنشاء دولة منشقة، مع تولي البرلمان والحكومة السلطة دون موافقة الحكومة الاتحادية، لكن الجبهة أكدت إنها ملتزمة بإبقاء الإقليم داخل إثيوبيا، وأوضحت أنها ستدافع عن “الحكم الذاتي”، وتعارض ما وصفته بمحاولة آبي أحمد لبناء دولة “موحدة” قوية.
ومن جهتها قرّرت الحكومة تقليص الأموال الفدرالية المخصصة للمنطقة، وهو ما عدته “جبهة تحرير شعب تيغراي” بمثابة “عمل حربي”.
أعلنت حكومة الإقليم حالة الطوارئ “للدفاع عن أمن ووجود شعب تيغراي وسيادته”، حسبما أفادت قناة تيغراي التلفزيونية الحكومية وحذّرت من أنه “سيتم اتخاذ إجراءات ضدّ أي شخص لا يتعاون”.
كما كرّرت اتهامها لإريتريا المجاورة بالتورط في الصراع إلى جانب قوات آبي أحمد. ونفت الحكومتان الإريترية والإثيوبية صحة هذه الاتهامات، وتؤكد السلطات في أديس أبابا على أن معركتها ضدّ الحكومة الإقليمية، وليست موجهة ضدّ شعب تيغراي.
وفي 4 تشرين الثاني، تعهّد آبي أحمد برد عسكري على هجوم “خائن” مميت على معسكرات الجيش الفدرالي في تيغراي، وقد نفت جبهة تحرير شعب تيغراي مسؤوليتها، وقالت إن الهجوم المزعوم ذريعة لشن “غزو”.
وبعد ذلك بيومين، ومع اشتداد القتال، أقال آبي أحمد قائد الجيش الذي ينتمي كبار قادته إلى العديد من قبائل التيغراي. وفي 9 تشرين الثاني، شنّت إثيوبيا غارات جوية على تيغراي وقال آبي أحمد إن العملية ستنتهي “قريباً” وإنّ خصومه سيخسرون “لا محالة”.
وأدّى اشتداد القتال إلى فرار الآلاف إلى السودان المجاور، فيما طالبت الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي بإنهاء القتال.
وفي 12 تشرين الثاني، قالت منظمة العفو الدولية إن العديد من المدنيين قُتلوا في مذبحة يقول شهود إن قوات داعمة لحكومة تيغراي نفذّتها. لكنّ جبهة تحرير شعب تيغراي نفت تورطها. وفي اليوم التالي، دعت الأمم المتحدة إلى فتح تحقيق في “جرائم الحرب” في المنطقة.
وفي سياق التطور الميداني أطلقت جبهة تحرير شعب تيغراي “صواريخ” على مطارين قيل إن الجيش الإثيوبي يستخدمهما في ولاية أمهرة المجاورة. هدّدت جبهة تحرير شعب تيغراي بشن هجمات صاروخية على أسمرة عاصمة إريتريا المجاورة.
وفي وقت لاحق، تعرضت المنطقة المحيطة بمطار أسمرة لعدة ضربات صاروخية، ما أثار مخاوف من اندلاع صراع إقليمي واسع. وأقر رئيس إقليم تيغراي دبرتسيون غبر ميكائيل باستهداف المطار. وقال لوكالة فرانس برس إنّ “القوات الإثيوبية تستخدم كذلك مطار أسمرة” في عمليتها العسكرية ضدّ منطقته، ما يجعل المطار “هدفاً مشروعاً ” وفق تعبيره.
ومع تمسّك طرفي الأزمة بموقفه وعدم وجود مؤشرات عن وجود أرضية مشتركة لاحتواء محتمل للأزمة، فإن الخوف من استمرار القتال يتزايد. فقد أصرّ آبي أحمد وتعهد بمواصلة القتال حتى يتم “سحق” ما وصفه بـ “المجلس العسكري الإجرامي” الذي يدير تيغراي.
ولقي المئات حتفهم خلال الضربات الجوية التي شنتها الحكومة الإثيوبية على الإقليم، وتحدثت مصادر عسكرية وأمنية في أمهرة، عن مقتل 500 شخص من التيغراي ومئات أيضاً من الجيش الوطني. ويخشى البعض أن تنزلق البلاد إلى حرب أهلية بسبب العداء الشديد بين قبائل تيغراي ورئيس الوزراء آبي أحمد الذي ينحدر من قبائل الأورومو الأكبر في إثيوبيا، حيث دعت الهيئات الدولية إلى وقف إطلاق النار والبحث عن طريق تفاوضي للخروج من هذه الأزمة.
للمرة الأولى في تاريخ إثيوبيا تحدث مواجهة مسلّحة مباشرة ما بين إقليم والحكومة المركزية، وما يزيد المخاوف من أن إقليم تيغراي قد يذهب في خطوة أبعد من المواجهة، ويقرر الانفصال عن دولة إثيوبيا المركزية.
وهناك مخاوف من أن الصراع الإقليمي الذي طال أمده سيكون له عواقب وخيمة على المدنيين في إثيوبيا وفي جميع أنحاء أفريقيا، وسيتورّط جيران إثيوبيا في الصراع، ما سيخلق أزمة إنسانية في ظل أوضاع اقتصادية معقدة، وسيدفع المدنيون الذين يعيشون بالفعل في ظروف محفوفة بالمخاطر، الثمن الباهظ لما يجري.