النفاق الاجتماعي يتسلل من حياتنا الواقعية إلى واقعنا الافتراضي!!
كتب أحد الشبان منشوراً على صفحته على الفيسبوك يتهجّم فيه على جميع أصدقائه، ومعارفه قائلاً: لقد نشرت قبل يومين صورة لي فكانت تعليقاتهم “منور، قمة بالجمال، معلم، ملك، أمير، متميز، اشتقنا لك”، رغم أنه – وبحسب تعبيره – عبارة عن شاب بسيط، فقير، محبط، لا عمل له، ولا أهمية، يحلم ليل نهار بالهجرة، أو بربح ورقة يانصيب، أو أي شيء آخر يمكّنه على الأقل من امتلاك مصروف جيبه خلال دراسته، وأكد أن معظم من علّق على منشوره لم يزره منذ زمن، أو يساعده عندما طلب مساعدته، أو يتحدث معه بتلك الأحاديث المعسولة عندما شاهده على أرض الواقع، أو أبدى إعجابه بملابسه العادية، وحياته المريرة!.
هذه الحادثة، إن دلّت على شيء، فإنها تدل على أن مواقع التواصل الاجتماعي نقلت أمراض واقعنا الملموس إليها، وخاصة مرض النفاق، ومن ثم شكلت بيئة خصبة لنمو مثل تلك الأمراض الاجتماعية بشكل ملفت، ومخيف، ويفوق ما هو موجود في الواقع المحسوس؛ هذا إن لم نتحدث عمن لا يعرفون بعضهم على الواقع، وتعرفوا على الفيسبوك حيث ينشط فيما بين معظمهم الكذب، أو التكتم، أو تفخيم الذات بشكل ينافي الواقع تماماً، وهذا كلّه يعني أن مواقع التواصل الاجتماعي تساهم في زيادة التفتّت الاجتماعي في مجتمعاتنا، بدلاً من أن تعزز التطور، والتنمية البشرية، بل وتزيد من جعل شعوبنا حطباً لأية غايات دنيئة غربية كما حدث مؤخراً في قضية ماكرون وتطاوله الممنهج على الإسلام، حيث تناسى البعض أن الأديان جميعها واحد، وتهدف لسمو الأخلاق، واعتبروا أن الدفاع عن الدين يكون بنشر هاشتاغات، أو صور مشوهة لهذا الماكر على مواقع التواصل الاجتماعي، أو أية منشورات قد تحضّ البعض على إيذاء الآخرين باسم دينهم عبر بعض الصفحات “النفاقية” التي تهدف لدمار الإنسان العربي، وزيادة عزله عن الركب الحضاري، والإنساني، والتحكم بقوته الانفعالية عبر عواطفه بعد زيادة انغلاقه الفكري.
وجهان
وكما هو معلوم، فإن النفاق من أخطر الأمراض التي تصيب الإنسان في تعاملاته اليومية مع الآخرين، سواء كانوا أصدقاء له، أو أقارب، أو زملاء عمل، أو حتى مدراء، حيث يجعل من مصلحته الشخصية الصخرة التي تتحطم عليها أعظم وأقوى المبادئ التي يفترض أن يتحلى بها الإنسان ليحقق كرامته الإنسانية، وفقاً لما أكده الدكتور معمر نواف الهوارنة، عميد كلية التربية في درعا، حيث طغى على حياتنا المعاصرة النفاق، والمجاملات التي تتجاوز الحدّ المعقول، ليس فقط في الحياة الواقعية بل في مواقع التواصل الاجتماعي أيضاً، فبات الكثيرون يلبسون الأقنعة المزيفة بكل سهولة لإخفاء حقيقتهم غير المقبولة ونفوسهم المشوهة بمختلف النوايا، أو السلوك الاجتماعي السلبي لتحقيق غاياتهم الدنيئة بكل سهولة.
وتابع الهوارنة: النفاق تبرز سلبيته في أن تقول ما لا تفعل، وتظهر عكس ما تخفي في قلبك تماماً، بل أن تظهر الخير، وتكتم ما تضمره من شر، وأن تدّعي الحب، والاحترام، في حين تخفي للآخرين كل الكره، والحسد والغيرة من عملهم ونجاحاتهم في أية مجالات عملية، أو اجتماعية، ويتبلور ذلك من خلال أن يمتلك المنافق وجهين يُظهر أياً منهما بحسب الموقف الذي يمر به، أو المصلحة التي ينشدها.
وتبرز خطورة النفاق الاجتماعي في أنه ينشئ الحقد والكره بين الناس، ويفرّق بينهم، ويجعل المنافق غير قادر على التعبير بكل صراحة عما في داخله، ويسلبه القدرة على مجاراة الآخرين، كما أن تفشي النِفاق في العلاقات الاجتماعية يُعدّ مؤشراً على غياب القيم والمبادئ عند أفراد المجتمع، كون ممارسة شخص ما للنفاق تعني بالضرورة ممارسته أيضاً للكذب، والخديعة، والتلاعب بالمشاعر، والكلمات دون إعارة الانتباه، أو التمييز بين الحق والباطل، أو الظالم والمظلوم، فالأهم لديه يكمن في تحقيق المصلحة على مبدأ: أنا أنافق إذن فأنا موجود!.
مكتسب بالتربية
وأكد الهوارنة أن النفاق الاجتماعي يأخذ أيضاً شكل التلون في العلاقات، وعدم الوضوح في المواقف والأحاديث لغرض الإفساد، أو الانتفاع الشخصي، ومن الأسباب التي تدفع الناس لاستخدام النفاق كأسلوب حياة قد يكون بسبب طريقة التربية والبيئة التي كانت تشجعهم دائماً على الظهور بمظهر مثالي، كما أنه لم يتمّ غرس القيم الأخلاقية بقدر كافٍ في مراحل الطفولة المبكرة، وأيضاً للنفاق أسباب نفسية ترجع للتنشئة الاجتماعية غير السليمة للأبناء منذ الصغر كاكتساب بعض الصفات السلبية مثل الكذب، وعدم الوفاء بالوعد، وخيانة الأمانة، ومن الأسباب الأخرى انعدام الثقه بالنفس التي تؤدي إلى الإحساس بالضعف، وأيضاً الشعور بالنقص، ومن الأسباب الأخرى الطموح الزائد الذي يتجاوز القدرات الشخصية، وكذلك عدم القناعة، والرضا بالحال، وأهم ما يجب أن يعلمه الآباء والأمهات أن النفاق مكتسب وليس فطرياً، وهذا يحتّم على الوالدين أن يكونا قدوة لأبنائهما في كل التصرفات، فعلى سبيل المثال يجب على الوالدين ألا يعدا أبناءهما بأشياء لا يمكنهما تنفيذها، أو معاقبتهم بشدة لدرجة الإيذاء البدني والنفسي، حتى لا يلجأ أبناؤهم للكذب لإخفاء ما يرتكبونه من أخطاء مستقبلاً، كما يتوجّب على الوالدين تعويد أبنائهما على عدم خيانة الأمانة وعدم التعدي على حقوق الآخرين.
التخلّص من النفاق يتطلّب التنشئة الاجتماعية السليمة للأجيال الجديدة، والعمل على تهذيب النفوس، وتصويب السلوك، والأخلاق، وإشاعة الوعي المجتمعي، والقيم العليا، كما يتوجب على كل إنسان صاحب فكر أن يتحدث بكلمة الحق، ويتكلم عن قيمة الإنسان، وجوهره أينما وجد، ولا بُد أن يُشكّل سلوكه وثقافته وسيلة لمنع تلك الآفات من التغول في مجتمعاتنا، وذلك بذكر الجانب الإيجابي للعلاقات، والسلوك الإنساني بشكل يمنح الفرد طاقة إيجابية، وثقة وفخراً بنفسه.
بشار محي الدين المحمد