الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

نوافذ 63

عبد الكريم النّاعم

لا أعتقد بصدق القول إنّ البشريّة في حراكها التاريخيّ تتّجه دائماً في خطّ متقدّم على ما  سبقه، إلاّ في حالات الاختراعات والابهار التكنولوجي، وهذا ليس دليل تقدّم “حضاريّ”، بل هو تقدّم في “المدنيّة”، أو تقدّم في ميدانه المحدَّد، وشتان ما بين “الحضارة”و”المدنيّة”.

إنّ التقدّم الحقيقيّ هو الذي يشمل حاجات الانسان الماديّة والروحيّة، وها نحن نشهد في “الويلات” المتحدة الأمريكيّة تقدّما تكنولوجيّا، وعسكريّا، واقتصاديّا، قد لايكون مسبوقاً في تغوّله، وفي طغيانه، وفي بُعده عن الروح الانسانيّة، ودليل ذلك نسبة الجريمة في مجتمعه، وعدد الذين لا مأوى لهم، بل يفرشون ألواحاً من الكرتون، ويسيّجون أنفسهم بمثلها، وينامون في العراء، بينما لا يعرف الأثرياء مقدار مالديهم من أموال إلاّ بالعودة إلى ما هو مُدوَّن، وها نحن شهدنا في ربع القرن الأخير من توحّش الرأسمال، والغزو، وابتكار ما لانعرف من الأسلحة الفتّاكة ما يُذهل، ورغم مظاهر التقدّم ثمّة نفخ شيطانيّ لا سابق له لإثارة الرّعب، والقتل بين الأديان والمذاهب، تقوده أيادٍ خفيّة ملطّخة بالجريمة، وبالخروج من دائرة ما هو بشريّ إلى كلّ ما هو إبليسيّ، وفي أيّ قرن؟ في القرن الواحد والعشرين، بينما نجده محفورا على حجر من حجارة تدمر، في حضارة كانت قبل المسيح بقرابة ثلاثة قرون، حُفر فيه: “لا تشتُم ربّاً لا تعبده”، تُرى كم في تلك الجملة من الرحابة، والفهم العميق لتعدّد الرؤى والأديان والمعتقدات، ومتى؟! قبل أن يولد السيد المسيح بمئات من السنين، أعتقد أنّ روح الأمّة التاريخيّ قد جسّد نفسه في تلك المقولة.

يبدو لي أنّ “مدنيّة” الغرب، بل والمساحة “الحضاريّة” فيه، بما هي عليه من الكبح، والتضييق، غير مؤهّلة لأن تشكّل انعطافة حقيقيّة في تاريخ البشريّة، بل هي وصلت إلى ذروة عالية في التكنولوجيا، تقابلها ذروة مثلها من حيث التدهور والاغتراب، والتردّي، وما يُنتظَر من “مدنيّة” أسّست رفاهها الموجود فيها على سلب خيرات الشعوب الأخرى، واستعمارها، وورثتها “الويلات المتحدة الأمريكيّة” التي تأسّست على إبادة شعب بكامله، ومسح آثار ثقافته، أعني “الهنود الحمر”، وكان منبعها الرئيس الذي تَرِدُه هو الاندغام مع المقولات التي أسّست للوجود الصهيوني الذي هو ذروة الذروة في كلّ شرّ ماثل في هذا العالم، المسألة أعقد بكثير ممّا نظن، لاسيّما حين لا نغفل عن الانحدار الذي أوصل المنطقة إليه، ما فعله التكفيريّون، باسم الإسلام، وأيّ إسلام؟! إسلام الفهم الأعرابي، الواحد الخالي من أيّ تعدّد، إسلام الزعم بأنّه الفرقة النّاجية! إسلام مَن يرى أنّه وحده ذاهب إلى جنّات ربّ العالمين، وما عداه فإلى دركات جهنّم!

رغم هذا لا مجال لليأس، فلا بدّ من أن يلتقي أخيار العالم، من كلّ الشعوب والأمم لإنقاذ هذا الكوكب من جنون ” الكاوبوي”، ومن توحّش مراكز المال، المُسيطر عليها من قبل الصهيونيّة العالميّة وشركائها.

*******

كان كابي الوجه، منقبض الملامح، لكأنّه يحمل هموم الكون على كتفيه، قلت له: “ما بك يارجل؟! لم أرك على مثل هذه الحالة من قبل”؟!

قال بصوت فيه رنّة عميقة من الأسى: “المَرار يا صديقي، المَرار، ريقي مرّ من غير مرض، روحي كأنّها مُدافة بالحنظل”.

قاطعته: “سلامتك من المَرار”..

تابع وكأنّه لم يسمعني: “بصمة أرواح الشهداء، من بداية هذا الحريق الذي أشعلوه وحتى ينتهي.. الفقر الذي يزداد ويقابله صعود طبقة من المتغوّلين الفاسدين الذين نعرف أنّهم لم يجنوا قرشا واحداً من حلال.. الحرائق المُفتعَلَة.. عدم قدرتي على تصديق معظم ما يُرسل إليّ عبر أجهزة الاعلام من أنس، في مواقع يُفترَض أن تنجح في جعل أمثالي يثقون بها،.. يؤذيني أنّي أستمع إلى آخرين على فضائيات أخرى فأجد لكلامهم صدى إيجابيّاً في نفسي، بينما تظلّ أجراس روحي خرساء حين يقرعها الأقربون!! ثمّة شيء عميق، وحميم تمّ تدميره، كيف أستعيده، لا أعرف؟!

قلت: “أهذه منطقة اليأس”؟

قال: “لا، عسى أن لا أيأس، ولكنّها نفثة ألم….”.

aaalnaem@gmail.com