الحال.. المحال؟!
د. نهلة عيسى
أظن، دعكم من الظن، أنا موقنة أننا بلد من البلدان القليلة جداً في العالم التي تباغتها البديهيات، وتفاجئها طبائع الأحداث، ولذلك يباغتنا الشتاء ويحاصرنا كل عام، ويصلبنا على أعمدة ذاكرة تغص بالوجع على مدار عشر سنوات، تكدس فيها البرد أشلاء في عظامنا، والعتمة بقايا مناف، وصور في عيوننا، وشكوك وقلق وريبة من كل ما يروى لنا من قصص عن الجاهزية الحكومية، نتناول لها يومياً الصبر والتجلد مسكنات، ونتسول الأمل بصلاح الحال؟!.
يباغتنا الشتاء وأشياء كثيرة أخرى، فنرمى مثل “قفة الهم” في حضن المرض، وإذا تأوهنا، سارعت جوقة المطبلين لمطالباتنا بالفرح عربوناً، لتكتمل الحكاية المحبوكة من وجع محبوك مكتوم، ولتستكمل الجملة المختزلة في إشارتها إلى مصير ينتظرنا (فيما لو طال صبرنا)، تطلق فيه الجوقة الرصاص ليس على الحقيقة ورؤوسنا فقط، بل أيضاً على الجغرافيا والتاريخ، والشتاء والصيف، وعلى كل ما يمت لحقوقنا بصلة، رغم أنهم يدعون النيابة عن حقوقنا والحديث باسمها؟!.
يباغتنا الشتاء، بعد سنوات من القلة والظلمة، وضعت كل واحد منا على أبواب الإجابة عن أسئلتنا لذاتنا ولآخرين شركاء: ما الذي فعلناه، أي جرم ارتكبناه، نحن الذين اعتقدنا يوماً أننا سنغير العالم على طريقتنا، وسنجعل الكون كله وليس الوطن فحسب، أجمل وأنقى وأصدق، ولا جواب، رغم مرور السنين، عن الأسئلة العلقم، أسئلتنا لذاتنا التي تحولت بمرور الأيام إلى مواجهة بيننا وبين أقنعتنا التي باتت ملامحنا، وزعمنا الذي ندعي فيه الانتماء إلى سلالة عيسى حباً، وتراث أيوب صبراً، وتاريخ محمد تسامحاَ.
يحاصرنا الشتاء، ومواجهتنا مع ذاتنا، مواجهة العاجز مع ظله، ومع جثث أحلام، تراخينا في تحويلها إلى وقائع، وانتظرنا في قاعات الشرف مثل خدنة السلاطين، أن تحمل حقائب أحلامنا إلينا، ولهثنا خلف قرارات حكومية وغير حكومية، وتواقيع وأختام مولودة من رحم الفساد، تهدي لنا مستقبلاً يشبهنا، كان يجب أن نهديه نحن لأنفسنا وللوطن، بعيداً عن الزواريب الخلفية التي لطالما ولد فيها غدنا.. مشوّهاً وابن حرام!.
يفاجئنا الشتاء، وعرينا عار، تعرينا فيه حتى الألف الأولى قبل الميلاد، وتعرت كل ادعاءاتنا أننا القادم الأجمل، وظهرنا فيه على حقيقتنا، مجرد ظلال فكت ارتباطها مع ذاكرتها الأولى، وحولت وجودها في الحياة إلى مجرد قرار إداري على درجة وظيفية، أو بطاقة هوية، أو جواز سفر، يقول: إننا مواطنون، وإننا بشر، ويضحك البشر؟!.
يباغتنا الشتاء للمرة المليون، ونحن في أوج ثمالة وجع طويل، كشف كل مستور، وكشف كيف اختبأنا خلف المتاح والممكن، وخلف اتفاق جمعي بالصمت، وزعم الفرح، تبيّن أنه أوهى من بيت العنكبوت، تشظى عند بدء البرد والمطر، وردنا إلى صفر الصفر في معادلة بناء الأمم، ولذلك نحن في العراء اليوم، حيث لا حجة لنا بل علينا، وهو عراء إذا لم يقدنا إلى اليقظة، فحتماً.. هو قائدنا إلى مزيد من السراب الذي نتخبط فيه منذ أعوام، ويتوهم بعضنا على اختلاف خنادقهم، واصطفافاتهم، أنه سفينة نوح التي ستحمل فقط مما يحبون، ومما يريدون، اثنين.. اثنين؟!.
لكن الوهم غفلة، وهو عدو لغد نتوسله منذ سنين، غد حدوده الاختلاف وسياجه الحرية في الاختلاف، ومناعته من الاستباحات، تكمن في رضانا وفخرنا أننا لسنا قوالب جبس تشبه بعضها البعض، وأننا ونحن في الخسارة ننحني لنعمة الاختلاف، ونقبل بالموت إذا كنا سبباً لولادة الوطن الذي نحب من جديد، وطن لا كذب فيه، لا ادعاء، ولا تنطع، ولا أوهام تميت الأحلام، ولا قراصنة تسرق منا الوطن، وتبيعه لنا رغيف خبز وقطعة جبن، تسرق منا إيماننا بالرب وبالوطن وبالذات، ولا تجار خردة، يقطعون الوطن أوصالاً، ويعرضونه علينا كل شتاء، حطباً للتدفئة، ومن ثم يطالبوننا بالفرح، فكيف حالكم في هذا الحال المحال، أظنكم مثل العادة تباغتم.. تفاجأتم؟!.