لخلل في التنسيق والتعاون.. خريجون دون وظائف وسوق العمل دون فرص؟!
أفواج من الطلاب تضج بها جامعاتنا في كل عام، وآلاف من الخريجين تصدرهم تلك الجامعات إلى سوق العمل الذي يغص بإشارات الاستفهام حول مدى استيعابه لهذا الكم الكبير من الخريجين الباحثين عن فرص عمل غالباً ما تكون دون الطموح الكبير الذي رسموه خلال سنوات الدراسة، “لينصدموا” بواقع سوق العمل الذي يعج بالعاطلين عن العمل مع شح في فرص العمل، وعلى الرغم من صدور إحصائيات بانخفاض أعداد العاملين في الدولة خلال السنوات الأخيرة نتيجة هجرة قسم منهم، وانتقال قسم كبير للعمل في القطاع الخاص أو الأعمال الحرة، إلا أن شيئاً لم يتغير على هذا السوق الذي مازال يفتقر لمقومات تحتاج لخطط إسعافية لاستيعاب العاطلين عن العمل!.
ما بعد الأزمة
مهما حاولنا التهرب منها تبقى موجودة وبكثرة، وحتى لو حرفنا في تسمياتها وخففنا من حدتها، تظل ظاهرة البطالة حديث الشارع السوري، لاسيما الفئة الشابة في مجتمعنا التي تواصل بحثها الدائم عن فرص للعمل دون كلل أو ملل، وبين القطاعين العام والخاص يتوه الباحث عن عمل، فالأول حلم بعيد المنال، وتحقيقه يحتاج واسطة ودعماً، إذ لا يكفي أن تكون خريجاً جامعياً، أو حتى حاصلاً على أعلى الشهادات، فدون دعم لا فائدة ترجى من شهاداتك وخبراتك سوى تعليقها على الحائط، أما القطاع الثاني، الخاص، فدخوله معاناة كبيرة، لكن الظروف أحياناً تكون أقوى من أصحابها، وإيجادك فرصة عمل بشروط قاسية خير من بقائك في المنزل
ومازالت شمّاعة الأزمة حاضرة بقوة عند التطرق للحديث عن أية مشكلة في البلد، ليكون الجواب حاضراً بأن ما بعد الأزمة أصعب من الأزمة ذاتها، فنتيجة الظروف التي نعيشها حالياً تفاقمت ظاهرة البطالة، ولم تعد المشكلة محصورة بفئة غير عاملة تبحث عن عمل، بل أصبحت هناك فئة جديدة كانت عاملة وفقدت عملها بسبب الأزمة وما بعدها، الأمر الذي انعكس على الأوضاع الاقتصادية، وتبعه تأثير اجتماعي ونفسي أيضاً، فكل مشكلة اقتصادية تفرز مشكلات نفسية واجتماعية خطيرة تنتهي بشعور الفرد العاطل عن العمل بأنه عالة على مجتمعه، ما يدفعه للتفكير بالهجرة خارج بلده، وهذا ما لحظناه خلال السنتين الأخيرتين، ليزداد معدل سفر الفئة الشابة التي تستقطبها الدول الأخرى تحت مغريات لم يجدوها في بلدهم، خاصة أن سوق العمل يعيش حالة من التخبط على مرأى من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل التي كانت ومازالت تكرر على مسامعنا السيناريو ذاته بأنها تعمل على تنظيم سوق العمل، وتساهم مع مختلف الجهات المعنية في وضع الرؤى والاستراتيجيات والخطط لإعادة تأهيل سوق العمل، وتهيئة المتعطلين عن العمل لمرحلة إعادة الإعمار التي بدأت ولم نلحظ تغييراً يذكر!.
مهن حرة
وخلال تحقيقنا في موضوع البطالة وسوق العمل لم نلحظ اقتصار البطالة على خريجي الجامعات من الفروع الأدبية، ليتعداه على الفروع العلمية، فكثيرة هي الحالات التي شاهدناها لمهندسين لم يسمح لهم معدلهم بالفرز في مؤسسات الدولة، ولم يستقبلهم القطاع الخاص لانعدام خبرتهم العملية بعد تخرجهم، ليشغلوا بعد هذه الحرب في قيادة “التكاسي”، أو العمل في الأكشاك، وغير ذلك من المهن الحرة التي لا تحتاج إلى سنوات خبرة، كذلك الأمر بالنسبة لخريجي كليات العلوم والفيزياء الذين لم يحالفهم الحظ في مسابقات وزارة التربية، ولم يحصلوا على كرسي في الوظائف الحكومية، ليكون باب إعطاء الدروس الخصوصية الملاذ الوحيد لهم، وغيره من الأبواب التي طرقوها ريثما يحظون بعمل يتناسب مع سنوات دراستهم التي تضيع مع أول صدمة لهم في سوق العمل الفارغ من العمل أساساً، كذلك يتجه العديد من خريجي المعاهد العملية للعمل في ورشات “ميكانيك السيارات” التي حسب رأيهم “بتطعمي خبز” أكثر من وظائف الدولة التي باتت كالحلم مستحيل المنال!.
بيئة استثمارية
لم يكن واقع سوق العمل بالصورة المطلوبة، خاصة خلال سنوات الأزمة، إذ يرى جمال الحجلي، أمين شؤون العمل في الاتحاد العام لنقابات العمال، أن هناك اختلالات مختلفة، وتفاقماً للبطالة برز من خلال ضعف التنسيق بين المؤسسات المعنية وسوق العمل، وأن غياب الاستراتيجية الواضحة لتنظيم سوق العمل بكافة مكوناته أوصلنا إلى الاعتماد على القطاع العام، وبرأي الحجلي فإن هذه المشكلات جاءت من خلال مجموعة اختلالات في العرض والطلب، وعدم توزيع قوة العمل بشكل قطاعي، إضافة إلى الفجوة الكبيرة في الأجور عموماً، وعلى الحكومة التدخل الفوري لمعالجة مشكلة الرواتب والأجور، والعمل على التدريب والتعليم، وتفعيل ثقافة العمل، كذلك وضع أسس وضوابط للحد من النمو السكاني، والاهتمام بالاستثمار، ووضع برامج من خلال سياسات اقتصادية تساعد على تحفيز الاقتصاد وتحسين البيئة الاستثمارية، إضافة إلى توصيف الوظائف وتحديد الملاكات العددية والأنظمة الداخلية، مع مراجعة للتشريعات والقوانين الخاصة بالعمل، على أن تؤخذ بالحسبان تداعيات الحرب والمشكلات التي أفرزتها، وعن دور اتحاد العمال في خلق فرص عمل لتحسين سوق العمل يؤكد الحجلي أن الاتحاد يقوم بالتنسيق مع كافة الجهات لإيجاد فرص عمل حقيقية من خلال إقامة مشاريع استثمارية تخفف من حدة البطالة، ونسعى لتطوير القطاع العام ليكون قطاعاً رائداً يتناسب مع التطور الاقتصادي، وإيجاد تقنيات مناسبة ليكون قطاعاً منافساً إن كان على المستوى المحلي أو الدولي.
خلق مواقع اقتصادية
ولأن سوق العمل في أية دولة يتأثر بالنشاط الاقتصادي، وقوة وحركة هذا النشاط، ولأن النشاط الاقتصادي في بلدنا حالياً بسيط أثر، برأي محمد كوسا “خبير اقتصادي”، في قلة فرص العمل خارج القطاع الحكومي، كما أن سوق العمل في القطاع الحكومي محدود نتيجة ضعف الاحتياجات للعمالة، وهي عبارة حالياً عن تعويض للفاقد نتيجة استقالة وهجرة وتقاعد قسم من الموظفين، إذ لا توجد بهذا القطاع اليوم أنشطة جديدة تستدعي استجرار قوة عمل، لذا لابد من إيجاد مواقع اقتصادية جديدة عن طريق تفعيل النشاط الاقتصادي، وعودة عجلة الإنتاج، وهنا يجب أن يكون الاعتماد على القطاع العام لأنه حقق في السنوات الماضية تراكماً استثمارياً، ولديه إمكانية التوسع بالقاعدة الاقتصادية، خاصة من ناحية الإنتاج الحقيقي فيما يتعلق بقطاع العمران، والقطاع الزراعي، وكلاهما يحتاج إلى قوة عاملة متعددة الاختصاصات والمهارات وبكافة الفئات، ويجد كوسا أن الإجراءات والسياسات الحكومية التي يجب أن تتبع لابد أن تصب في فتح مواقع اقتصادية وجبهات إنتاج جديدة، خاصة في القطاع الخاص، حيث إن المسؤولية في توزيع سوق العمل تقع على الحكومة والقطاع الخاص معاً، وعندما تتوسع قاعدة الإنتاج، وتعود حركة النشاط الاقتصادي بشكل سريع، عندها توفر آلاف فرص العمل، ويتم حينها ربط مخرجات التعليم مع هذه المواقع، وكل من اللاعبين الاقتصاديين يجد مبتغاه من مخرجات التعليم المختلفة.
هوة كبيرة
نتوءات كثيرة برزت خلال السنوات الأخيرة في سوق العمل تبدأ من المخرجات التعليمية التي تحتاج لسنوات من التدريب والتأهيل لتصبح قادرة على الانخراط بسوق العمل، خاصة أن السياسة التعليمية لدينا، حسب الدكتور “محمد ناصر” (كلية الاقتصاد)، تعتمد على المفهوم النظري أكثر من التطبيق العملي في أغلب مفاصل الجامعات، الأمر الذي يستدعي تنسيقاً بين وزارة التعليم ووزارة الصناعة والشؤون الاجتماعية والعمل، وصولاً إلى مخرجات تعليم تكون مؤهلة ومستعدة للانخراط بسوق عمل بدأ بالانتعاش خلال فترة إعادة الإعمار حالياً، وأصبح أكثر قدرة على استيعاب كم أكبر من الخريجين مقارنة بسنوات الأزمة، وهنا لا نغفل الانعكاسات السلبية التي أثرت على هذا السوق، والتي تحتاج إلى الوقوف عليها ومعالجتها، أهمها الخلل الكبير في هيكلية سلسلة الرواتب والأجور بالنسبة لحاملي المؤهلات المهنية، والتي لا تتناسب بشكل أو بآخر مع طبيعة عملهم، كذلك يجب على القطاع الجامعي تعزيز مواكبته لسوق العمل ومتطلباته، والتواصل مع القطاع الخاص للخروج برؤية جديدة متجددة حول المناهج الجامعية، الأمر الذي من شأنه ردم الهوة أو الفجوة الناشئة بين الدراسة النظرية والواقع العملي التطبيقي.
ميس بركات