إعادة تدوير
د. نضال الصالح
في التعريف إعادة إنتاج المواد منتهية الصلاحية، وفي الغاية وسيلة للتخلّص التقليدي من النفايات وللتقليل من مواد جديدة. وفي كليهما، التعريف والغاية، ما يعني مصدراً جديداً للمادة نفسها بعد تحويلها من مادة مستهلكة إلى أخرى قابلة للاستهلاك. وفي الواقع أنّ إعادة التدوير لا تعني غير العاقل وحده حسب تمييز النحو العربيّ بين “ما” الدالة على ما لا يعقل و”مَن” الدالة على مَن يعقل، فهي تتجاوز ذلك إلى ما ينطوي تحت عباءة “مَن” أيضاً مهما يكن من أمر درجة النسب التي تربط عائد الضمير بالذوات العاقلة، فشأن الأشياء المنتهية الصلاحية التي يُعاد تدويرها ثمّة بعض من الناس الذين يُعاد تدويرهم بعد انتهاء صلاحياتهم أيضاً، وغالباً ما ينهض بمهمة إعادة التدوير هذه مَن يتوهم أنّ هؤلاء ممّن ينطبق عليهم المثل الشعبي القائل: “خرطه الخرّاط وقلبَ ومات”، أو ممّن لن تجود أرحام النساء بمثلهم، أو بدلاً منهم، أو لكأنّ الواقع هو هم وحدهم، ووحدهم فحسب.
وعادة ما يكون أوّل الخطو في طريق هذه المهمة هو نفض الغبار عن أولئك الذين يمكن وصفهم بالموتى على قيد حياة، أو الأحياء على قيد موت، وعادة أيضاً ما يتصدى للمضيّ في هذه الطريق ممّن ارتضى لنفسه أن يكون خادماً في ممالك هؤلاء الأحياء الموتى أو الموتى الأحياء، وممّن لا يعنيه من أمر الواقع سوى ما يثمّر رصيده من خزائن أولئك مهما يكن من أمر الحقيقة، أي انتهاء صلاحية الحيّ الميت أو الميت الحيّ لشيء ما أو شأن ما.
ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر ما لا يتردد بعض العاملين في حقل الإعلام أو النقد، أيّاً كان المجال الذي يتحرّك فيه، أدب أو تشكيل أو سينما أو دراما أو سوى ذلك، من القيام به لإعادة تلميع أحد أعفي من مهمة له ليتم تدويره لمهمة أخرى، وربّما إعادته إلى مهمته نفسها، أو لمحاولة نفخ الحياة في روحه وهو يشرف على الموت، أو لإحياء أحد من رميمه بعد أن استنفد نفسه، فأصبح هو بنفسه يعيد إنتاج نفسه، ولم يعد ممكناً له إضافة شيء إلى ما سبق من نتاج له، أو ممّا كان توهمه إبداعاً في هذا المجال أو ذاك، وممّا ظلّ يصدّع به الرؤوس عقوداً من الزمن.
من إحدى عبقريات الزمن أنّه يشبه النهر في تدفّقه إلى الأمام، ومن إحدى أهمّ أمثولاته ثقافة الخصب والولادة لا الجدب أو اليباس، ومن بعض بلاغته أنّ الأمم والمجتمعات التي تريد أن يكون لها مكان تحت الشمس هي تلك التي تؤمن بأنّ لكلّ مرحلة من تاريخها الاستحقاق الخاص بها من الكفاءات والطاقات، لا إعادة تدوير من لم يعد يصلح لغير متاحف التاريخ.
وبعدُ، وقبل، فسبحانه، جلّ شأنه، مَن يحيي العظام وهي رميم!