تكديس الثروات يؤدي لانخفاض عدد سكان الأرض
“البعث الأسبوعية” ــ سمر سامي السمارة
في الآونة الأخيرة، صار بالإمكان مشاهدة عدد كبير من التقارير الإخبارية التي تتوقع زيادة في معدل الولادات في جميع أنحاء العالم. وترجع هذه التوقعات لزيادة تدفقات الهجرة في العديد من الدول، وقد تحدثت التقارير بشكل خاص، عن ارتفاع في إجمالي عدد السكان في أوروبا يرتبط بزيادة عدد اللاجئين الوافدين.
في الوقت الراهن، يعيش 7.8 مليار إنسان على وجه الأرض، بينما يواصل سكان العالم النمو بنحو 82 مليون شخص سنوياً، إلا أن هذه الحالة تُعزى بدرجة كبيرة إلى النمو السكاني الكبير الذي شهدته أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، والتي سيتضاعف عدد سكانها بحلول عام 2050، بينما سيزداد بطء النمو على المستوى العالمي على نحو متزايد.
لذلك، وفي حين توقعت الأمم المتحدة ومراكز الأبحاث انفجاراً واكتظاظاً سكانياً محتملاً على هذا الكوكب، أصبح متوقعاً الآن مصادفة توقعات مخالفة تماماً لما ذهبت إليه هذه المراكز. وعلى سبيل المثال، ووفقاً للعديد من الدراسات التي أُجريت مؤخراً، سيستمر انخفاض عدد سكان العالم خلال النصف الثاني من هذا القرن، من 9.7 مليار نسمة، في العام 2064، إلى 8.8 مليار بحلول نهاية القرن. وتشير دراسة نشرتها المجلة الطبية” ذا لانسيت” إلى أن معدل الخصوبة العالمية سينخفض بحلول العام 2100 بمعدل الثلث تقريباً. وفي 23 دولة، من بينها اليابان وتايلاند وإسبانيا وأوكرانيا، سينخفض عدد السكان بمقدار النصف، كما سينخفض في 34 دولة أخرى بنسبة 25 – 50٪. وتشير الدراسة إلى أن عدد سكان اليابان – على الأرجح – بلغ ذروته عندما وصل إلى 128 مليوناً في العام 2017، وسوف ينخفض إلى ما دون الـ 53 مليوناً بحلول العام 2100؛ أما بالنسبة لإيطاليا، على سبيل المثال، فسوف ينخفض عدد سكانها خلال نفس الفترة من 61 مليوناً إلى 28 مليون نسمة.
عرض مجلس الوزراء الأوكراني نتائج التقييم الذي أجراه على عدد سكان البلاد. وبحسب التقييم، تبين أن أوكرانيا فقدت بالفعل – على مدار الثلاثين عاماً الماضية – ثلث سكانها. ومقارنةً بالتعداد السكاني السابق لعام 2001، انخفض عدد سكان أوكرانيا اليوم من 52 مليوناً إلى ما يزيد قليلاً عن 37 مليوناً؛ كما تبدو التوقعات بمزيد من الانخفاض السكاني في هذا البلد أكثر تشاؤماً.
وتواصل كل من لاتفيا وليتوانيا التراجع المتسارع بعدد سكانها، ما يهدد قاعدتها السكانية بالتهرّم، إذ يتوقع الخبراء وقوع كارثة ديموغرافية لهاتين الدولتين؛ ويرجع الخبراء الأسباب لنقص المتخصصين الحيويين، وزيادة عدد المتقاعدين، وتزايد موجات الهجرة. ومنذ انهيار الاتحاد السوفييتي، فقدت هذه الجمهوريات السوفيتية السابقة ما يصل إلى ثلث سكانها، إذ هاجر شباب دول البلطيق إلى دول الاتحاد الأوروبي بحثاً عن “حياة أفضل”؛ ونتيجة لذلك، تشهد لاتفيا – على سبيل المثال – إلى جانب عشر دول أخرى في العالم، انخفاضاً حاداً واستنزافاً للسكان من البلاد.
وفيما يتعلق بليتوانيا، وهي جمهورية سوفيتية سابقة أخرى على بحر البلطيق، يعتقد بعض الخبراء أنه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وتمكنها من الوصول إلى الاتحاد الأوروبي، أصبحت ليتوانيا منطقة هامشية، مصيرها أن تعيش حياة بائسة، إذ أنها تحتل اليوم الصدارة عالمياً، لجهة نزوح السكان وحالات الانتحار وإدمان الكحول، وهي عوامل واضحة الترابط. وبرى خبراء أن “الاتحاد الأوروبي يحافظ بشكل مفتعل على مستوى معيشة متدن في ليتوانيا من أجل استخدام موارد الجمهورية للمساعدة في تطوير مناطق أخرى في أوروبا، إذ يعيش اليوم ما يقرب من 390 ألف مواطن ليتواني في حالة فقر مدقع، حيث لا يتعدى الدخل الشهري للفرد الـ 240 يورو للفرد، وأقل من 500 يورو لكل أسرة، وهي مؤشرات منخفضة للغاية وفقاً المؤشرات الأوروبية الأنموذجية.
وبحسب الإحصاءات المنشورة، فإن إنفاق دول البلطيق على مدفوعات الرعاية الاجتماعية لسكانها هي الأقل في الاتحاد الأوروبي؛ ففي لاتفيا، يصل هذا البند من الإنفاق إلى 14.5٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وفي ليتوانيا إلى 14.7٪ ، وفي إستونيا 15.1٪. وعلى سبيل المقارنة، تبلغ النسبة في فرنسا أكثر من ثلث الناتج المحلي الإجمالي. وشهدت كل من لاتفيا وليتوانيا بشكل منتظم احتجاجات قام بها الأطباء والمعلمون في السنوات الأخيرة. إلى جانب ذلك، تعمل دول البلطيق، المتأثرة بالدعاية المعادية للروس التي بدأت في الغرب، على زيادة ميزانياتها الدفاعية وشراء الأسلحة والمعدات العسكرية من شركاء الناتو – وبشكل رئيسي من الولايات المتحدة وبريطانيا – وعادة تكون هذه الأسلحة والمعدات نماذج قديمة، وأحياناً “مستعملة” بالفعل، ما يعني أنه يجب إرسال المعدات للإصلاحات إلى البلدان نفسها التي تم شراؤها منها.
في الوقت نفسه، وقبل ثلاثين عاماً – أي قبل التحول الفجائي إلى معسكر “أعداء روسيا” – كان لدول البلطيق وكذلك لأوكرانيا اقتصادات متطورة، وموجهة إلى حد كبير نحو روسيا، بينما أصبحت الآن مدمرة كلياً. وفي مثل هذه الحالة، ومن أجل إنقاذ سكان المنطقة بشكل عاجل، بدأ الخبراء المحليون إجراء المزيد من النداءات التي ترى أن التحول عن سياسة الخوف من روسيا، والتي تنتهجها الدول، هذه، الخاضعة للنفوذ الغربي، يمكن أن ينقذ سكان المنطقة.
وبالمناسبة، فإن مثل هذا الانسحاب من الناتو سيحقق الانتقال إلى قائمة الدول المحايدة، وتحرير أموال الميزانية الضرورية جداً لهذه البلدان، والتي تنفق الآن على الأسلحة لمواجهة ما يسمى “تهديداً روسياً”.
تعتبر عواقب جائحة الفيروس التاجي والركود الاقتصادي ذي التأثير بعيد المدى المتوقع – والذي يمكن أن يساهم بشكل كبير في انخفاض معدل الولادات خلال السنوات القادمة – الأسباب الأكثر شيوعاً لانخفاض عدد سكان الكوكب. فغالباً ما يؤدي انعدام الاستقرار الاقتصادي إلى تأخير الإنجاب، أو اختيار البقاء بدون إنجاب. ويعتقد خبراء، من معهد الديموغرافيا في الأكاديمية النمساوية للعلوم، أن معدلات الوفيات في البلدان التي عانت بشكل خاص من الفيروس قد تتراوح بين 10 – 20٪ في نهاية هذا العام.
وفي الولايات المتحدة، بسبب الانخفاض الحاد بشكل مستمر في الدخل الأمريكي، كان ثمة انخفاض كبير في معدل الولادات، ما سيؤدي إلى مشاكل جديدة لاقتصادها. ومن الجدير بالذكر، انخفض معدل الخصوبة الإجمالي في الولايات المتحدة في السنوات القليلة الماضية، فعلياً، من 2.1 إلى 1.7 طفل لكل امرأة. ونشر معهد بروكينغز توقعاً سلبياً يُظهر أن الولادات في الولايات المتحدة ستكون أقل بمعدل 500 ألف أمريكي، في العام 2021، عما توقعه علماء السكان في توقعاتهم الأولية.
في خضم هذا المشهد، تظهر تقارير أخرى في كبرى وسائل الإعلام الدولية تدفع الناس إلى الاهتمام. إذ تشير بلومبرغ – على وجه الخصوص – إلى أنه مع فقدان ما يقرب من 43 مليون أمريكي وظائفهم، وسبل عيشهم الأساسية، ازادت ثروة المليارديرات الأمريكيين في الأشهر الأخيرة بمئات المليارات من الدولارات، ووصلت الآن إلى 3.51 تريليون دولار أمريكي. جاء ذلك أيضاً في تقرير نُشر على الموقع الإلكتروني للمعهد الأمريكي للدراسات السياسية، والذي يشير إلى تسارع عملية تكديس المليارديرات للثروة ، بينما يواجه الأمريكيون الآخرون انخفاضاً حاداً في مدخراتهم.
وقدرت مجلة فوربس التي تُعنى بإحصاء الثروات أنه – بعد مضي يوم على الانتخابات الرئاسية الأمريكية – ازدادت ثروات أغنى عشرة أشخاص في الولايات المتحدة بنسبة فاقت 33 مليار دولار أمريكي. ومع ذلك، ستؤدي هذه التحولات، بالتأكيد، إلى تغيير في النظام العالمي الحالي، وإلى سيناريوهات جديدة في الجغرافيا السياسية والاقتصاد العالمي، ما سيجبر الكثيرين على التفكير ملياً في الجوانب الجيوسياسية والجغرافية الاقتصادية لانخفاض عدد السكان، وعواقب التركيز المتزايد لثروة العالم في أيدي عدد ضئيل من الناس.