مجلة البعث الأسبوعية

جرائم مكتب التحقيقات الفدرالي FBI ووكالة الاستخبارات المركزية CIA.. من يصدق أنها تعمل من أجل “الأمن القومي” الأمريكي؟!

“البعث الأسبوعية” ــ هيفاء علي

في هذه الأوقات، حيث تشهد الولايات المتحدة اضطرابات اجتماعية كبيرة، عقب الانتخابات الرئاسية التي انتهت بفوز جو بايدن وهزيمة ترامب، الرافض للاعتراف بالهزيمة، لا بد من التساؤل كيف يتكون “النظام” الأمريكي؟ ومن أين تأتي التظلمات الحالية؟ هذا النظام الذي يحفر قبره بيده في خضم الصراع المرير الذي يخوضه من أجل بقائه، وهو غير قادر على إيجاد حلول حقيقية للمشاكل التي يواجهها، بحسب العديد من المحللين الأمريكيين.

يتعلق المسألة الأهم بماهية التحولات التي ستعصف بالجهاز السياسي والاستخباراتي، حتى يتوقف استمرار هذه الخيانة الاستبدادية في مساره، ويفقد قدرته على زرع الفتنة والفوضى. صحيح أنه لا يمكن الكشف عن كل شيء للشعب الأمريكي، لكنه هذا الشعب ينام على جبل من المواد الاستخباراتية السرية التي يعود تاريخها إلى أكثر من 60 عاماً. فكم من الوقت يجب أن يمر قبل أن يكون للشعب الأمريكي الحق في معرفة حقيقة ما قامت به وكالاته القومية داخل وخارح بلاده، نيابة عن العالم “الحر”؟ إن مسألة رفع السرية عن المستندات المتعلقة بفضيحة “التدخل الروسي” في انتخابات الرئاسة الأمريكية – أو ما بات يعرف باسم “روسيا غيت” في صحافة المحافظين الجدد – أمر ضروري للتعامل مع هذا التدهور الذي يغلي منذ الاغتيال الشنيع للرئيس جون كينيدي، في 22 تشرين الثاني 1963، والذي ما زال الأمريكيون ينتظرون، بعد 57 سنة، الكشف الكامل عن وثائقه السرية.

والحقيقة، يجب فحص مكاتب الاستخبارات لتحديد الأساليب والمعايير التي تطبقها في جمع “معلوماتها الاستخبارية”، والتي من المفترض أنها بررت تحقيق المحقق الخاص روبرت مولر، والتحقيق الذي لا ينتهي مع مايكل فلين، مستشار ترامب السابق للأمن القومي، والذي لم يقدما فيه أي دليل قاطع لدعم مزاعمها، بل وانتهك قدرة “الحكومة المنتخبة” على إحداث التغييرات التي وعدت بها ناخبيها.

فكما جرى في الحربين على العراق وليبيا، واللتين استندتا إلى معلومات استخباراتية بريطانية تم التلاعب بها، يبدو أيضاً أن أيدي الاستخبارات البريطانية منغمسة في فضيحة “روسيا غيت”. وليس من المستغرب أن السير ريتشارد ديرلوف، الذي كان آنذاك مدير جهاز MI6 (1999 – 2004)، والذي أشرف ودعم المعلومات الاستخبارية الاحتيالية عن العراق، زاعماً “أنهم كانوا يشترون اليورانيوم من النيجر لبناء سلاح نووي”، هو نفسه الذي روّج لفضيحة “روسيا غيت”.

بعبارة أخرى: الرجل المسؤول عن الغزو غير الشرعي للعراق، والذي أطلق العنان للحروب التي لا نهاية لها على “الإرهاب”، والتي بررتها أيضاً الاستخبارات البريطانية، هو نفسه المسؤول أيضاً عن “روسيا غيت”، وإطلاق حملة مطاردة الساحرات الروسية التي جرت في الولايات المتحدة خلال السنوات الأربع الماضية، بسبب المعلومات البريطانية المزيفة، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، ووكالة الاستخبارات المركزية، المتواطئان في هذه الفضيحة، في خيانة للشعب الأمريكي قبل غيره.

 

تهديدات لـ “الأمن القومي”!

تقرير “مجوهرات العائلة”، الذي كان تحقيقاً أجرته وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA في الموضوع، إنما تم تحريكه استناداً إلى فضيحة ووترغيت، ودور الوكالة غير الدستوري في القضية، وهي التي شجعت على إجرائه. حيث تم رفع السرية جزئياً عن التقرير في حزيران 2007 (بعد 30 عاماً). وقد صدر التقرير منقحاً ومصحوباً بملخص من ست صفحات مع المقدمة التالية:

انتهكت وكالة الاستخبارات المركزية ميثاقها لمدة 25 عاماً، حتى أدى الكشف عن التنصت غير القانوني وعن المراقبة الداخلية ومؤامرات الاغتيال والتجارب البشرية إلى تحقيقات رسمية وإصلاحات في أعوام السبعينات. وعلى الرغم من هذا الانتهاك المعترف به لميثاقها، لمدة 25 عاماً، أي منذ إنشائها تقريباً، ظلت تفاصيل هذه المعلومات سرية لمدة 30 عاماً، ليس فقط للأمريكيين، ولكن أيضاً للهيئات الحكومية الرئيسية، وترك للوكالة نفسها أن تحكم على أفضل السبل لـ “إصلاح” أساليبها”.

في 22 كانون الأول 1974، نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالاً بقلم سيمور هيرش يفضح العمليات غير القانونية التي قامت بها وكالة الاستخبارات المركزية، والتي أطلق عليها اسم “مجوهرات العائلة”. وشملت هذه العمليات السرية محاولات اغتيال لزعماء أجانب وتخريب أو الإطاحة بحكومات الأجنبية، إضافة إلى أن المقال ناقش الجهود التي تبذلها أجهزة الاستخبارات لجمع المعلومات حول الأنشطة السياسية للمواطنين الأمريكيين. وكرد فعل على مقال هيرش، تمت الموافقة على إنشاء “لجنة الكنيسة”، في 27 كانون الثاني 1975، بأغلبية 82 مقابل 4 أصوات في مجلس الشيوخ.

صدر التقرير النهائي للجنة الكنيسة، في نيسان 1976، بعنوان “مزاعم مؤامرات لاغتيال بمسؤولين أجانب”، وقد حقق في محاولات اغتيال “مزعومة” ضد قادة أجانب، بمن فيهم باتريس لومومبا في زائير، ورافائيل تروجيلو في جمهورية الدومينيكان، ونغو دينه ديم في فيتنام، والجنرال رينيه شنايدر في تشيلي، وفيدل كاسترو في كوبا. حاول الرئيس فورد إخفاء التقرير، لكنه فشل، وأصدر على مضض الأمر التنفيذي 11905 بعد ضغوط من الرأي العام ولجنة الكنيسة.

يُنظر الآن إلى هذه المحاولة على أنها فاشلة، وقد تم نقضها من قبل الرئيس ريغان، الذي أصدر الأمر التنفيذي 12333 بتوسيع صلاحيات ومسؤوليات وكالات الاستخبارات الأمريكية، وأمر رؤساء الوكالات الفيدرالية بالتعاون الكامل مع وكالة الاستخبارات المركزية، التي عادت إلى نظامها الأساسي عندما كان لديها السلطة الكاملة على العمليات السرية. بالإضافة إلى ذلك، أنتجت لجنة الكنيسة سبع دراسات حول العمليات السرية، ولكن الدراسة الخاصة بتشيلي هي الوحيدة التي نُشرت تحت عنوان “العمل السري في تشيلي: 1963 – 1973″، وتم إبقاء الدراسات الأخرى سرية بناء على طلب الوكالة.

كان من أكثر الكشوفات الصادمة التي قدمتها “لجنة الكنيسة” اكتشاف عملية شمروك، حيث تقاسمت شركات الاتصالات الكبرى بياناتها مع وكالة الأمن القومي FBI، من العام 1945 إلى أوائل السبعينيات. وكجزء من هذه العملية، تمت تغذية قائمة مراقبة وكالة الأمن القومي مباشرة وباستمرار، وتم الكشف خلال تحقيقات اللجنة عن أن السناتور فرانك تشيرش، الذي أشرف على لجنة الكنيسة، كان من بين الأسماء البارزة الخاضعة للمراقبة في قائمة مراقبة وكالة الأمن القومي. وفي عام 1975، قررت لجنة الكنيسة رفع السرية من جانب واحد عن تفاصيل هذه العملية، على الرغم من اعتراضات إدارة الرئيس فورد.

شكلت تقارير لجنة الكنيسة المراجعة الأكثر شمولاً للنشاط الاستخباراتي المتاح للامريكيين على الإطلاق. وتم تصنيف الكثير من محتواها، ولكن تم رفع السرية عن أكثر من 50000 صفحة بموجب قانون سجلات اغتيال الرئيس جون إف كينيدي، 1992، بشأن مجموعة سجلات الاغتيال.

اغتيل الرئيس كينيدي في دالاس، تكساس، في 22 تشرين الثاني 1963. وقبل يومين من اغتياله، تم تداول نشرة كراهية ضده في دالاس، اتهمته بالقيام بأنشطة غادرة، بما في ذلك كونه متعاطفاً مع الشيوعية.

في 1 آذار 1967، ألقى المدعي العام في نيو أورليانز، جيم غاريسون، القبض على المدعو كلاي شو، واتهمه بالتآمر لاغتيال الرئيس كينيدي، بمساعدة ديفيد فيري وآخرين. وبعد محاكمة استمرت أكثر من شهر بقليل، تمت تبرئة شو في 1 آذار 1969.

وديفيد فيري، وهو أحد محامي لي هارفي أوزوالد، وكان من المقرر أن يكون شاهداً رئيسياً، وزُعم أنه قدم أدلة دامغة تربطه بكلاي شو، تم اغتياله في 22 شباط 1967، بعد أقل من أسبوع من التحقيق. وفقاً لنتائج فريق غاريسون، كان هناك سبب للاعتقاد بأن وكالة الاستخبارات المركزية كانت متورطة في تنظيم اغتيال الرئيس كينيدي، ولكن الوصول إلى المستندات السرية كان ضرورياً لمواصلة هذا التحقيق.

على الرغم من افتقار فريق غاريسون إلى أدلة مباشرة، فقد تمكن من جمع قدر هائل من الأدلة الظرفية، والتي كان ينبغي أن تضمن الوصول إلى وثائق سرية لمزيد من التحقيق. بدلاً من ذلك، تم رفض القضية بسرعة.

بعد ذلك، في عام 1994، تأسس “مجلس مراجعة سجلات الاغتيالات” “اررب” من قبل الكونغرس الذي سن قانون عام 1992 لجمع السجلات المتعلقة باغتيال الرئيس كينيدي، والذي يطلب أن تكون جميع السجلات المتعلقة بعملية الاغتيال محفوظة في مجموعة واحدة، داخل إدارة المحفوظات والسجلات الوطنية. في تموز 1998، سلط تقرير منشور من قبل موظفي “ارب” الضوء على أوجه القصور في تشريح الجثة الأصلي.

جاء في تقرير “ارب”: “إحدى المآسي العديدة لاغتيال الرئيس كينيدي كانت عدم اكتمال سجل تشريح الجثة والشك الناجم عن السرية التي أحاطت بالسجلات الموجودة”.

يقول تقرير مجلس مراجعة سجلات الاغتيالات إن صور الدماغ في ملفات كينيدي ليست تلك الخاصة بدماغ كينيدي، وتظهر أضراراً أقل بكثير من تلك التي عانى منها.

ومن المعروف منذ فترة طويلة أن كبير الأطباء جيمس. ج, هيومز دمر وثائق التشريح الأصلية في مدفأة بمنزله، في 24 تشرين الثاني 1963، وأخبر لجنة وارن أن ما أحرقه كان مسودة أصلية لتقرير تشريح الجثة.

قال جون تي سترينجر، الوحيد الذي التقط صوراً أثناء تشريح الجثة، إن بعضها مفقود أيضاً، وإن الصور التي التقطها لدماغ كينيدي، أثناء “تشريح آخر للجثة “كانت مختلفة عن المجموعة الرسمية التي عُرضت عليه”. وهذا لا يُظهر فقط أنه تم التلاعب بالأدلة، كما تعترف بذلك لجنة وارن، ولكنه يشكك في مصداقية سجل اغتيال جون ف. كينيدي بأكمله، ومدى وجود ادلة مزورة في هذه السجلات.

من الضرورة بمكان أيضاً التذكير بالجرائم العديدة التي ارتكبها مكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة الاستخبارات المركزية ضد الشعب الأمريكي، مثل فترة المكارثية حيث كان الـ FBI متورطاً في عمليات سرية ضد أعضاء حركة الحقوق المدنية، بمن في ذلك مارتن لوثر كينغ جونيور في الستينيات. لم يخف مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي جيه إدغار هوفر عداءه تجاه الدكتور كينغ واعتقاده بأن كينغ قد تأثر بالشيوعيين، رغم أنه ليس لديه دليل يثبت ذلك.

في تشرين الثاني 1975، وبينما كانت لجنة الكنيسة تستكمل تحقيقاتها، شكلت وزارة العدل فريق عمل لمراجعة برنامج التضييق الذي سلكه مكتب التحقيقات الفيدرالي ضد الدكتور كينغ، بما في ذلك التحقيقات الأمنية معه، واغتياله، والتحقيق الجنائي اللاحق لمكتب التحقيقات الفيدرالي عقب الاغتيال. كان أحد جوانب دراسة فريق العمل هو تحديد “ما إذا كان أي إجراء تم اتخاذه ضد الدكتور كينغ من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي قبل الاغتيال كان له، أو كان يمكن أن يكون له، أي تأثير، مباشر أو غير مباشر، في هذا الحدث”.

في تقريره، انتقد فريق العمل مكتب التحقيقات الفيدرالي ليس لفتحه التحقيق، ولكن لاستمراره مطولاً في التحقيق الأمني مع الدكتور كينغ:

خلال المحاكمة التي دامت أربعة أسابيع، تمت الإشارة إلى أن البندقية التي يُزعم أنها استخدمت لاغتيال كينغ لم يكن لها مدى كافٍ، ما يعني أنه لم يكن من الممكن أن تجتاز سماكة جدار الحظيرة حتى لا تكون سلاحاً القتل.

لم يُلاحظ هذا إلا بعد أكثر من 30 عاماً من اغتيال كينغ، وأظهر مستوى عدم كفاءة، أو على الأرجح، عمليات التلاعب بالأدلة التي تم ارتكابها في تحقيقات مكتب التحقيقات الفيدرالي السابقة.

إن قضيتي جون كنيدي وكينغ تعتبران من أكثر قضايا الاغتيال شهرة في التاريخ الأمريكي، وقد ثبت وجود تلاعب في كلتا الحالتين، خلافاً لما تقتضيه المصلحة العامة.. إذن ما الذي يجب توقعه كمعيار للتحقيق في جميع قضايا المخالفات الأخرى؟

مع تاريخ مليء بهذه الأخطاء الصارخة، من الواضح أن المطالب الحالية برفع السرية عن وثائق “روسيا غيت” الآن، وليس بعد 50 عاماً، يجب تنفيذها بسرعة لمعرفة مستوى الجريمة التي تحدث وراء الكواليس، وتحدد مصير البلاد.

إن عمليات التحايل التي مضى عليها أكثر من سبعة عقود لاستهداف أفراد واتهامهم بأنهم عملاء لروسيا دون أي دليل بهدف إخراجهم من الساحة السياسية، لا تزال مستمرة حتى اليوم.. والمساعي الحالية لرفع السرية عن وثائق “روسيا غيت”، وتبرئة مايكل فلين، حتى يتمكن من التحدث بحرية عن المعلومات الاستخباراتية التي يعرفها، لا يشكل تهديدا للأمن القومي، وإنما تهدد اؤلئك الذين خانوا ويخونون بلدهم.

في 6 تشرين الأول 2020، أمر الرئيس ترامب برفع السرية عن وثائق تحقيق “روسياغيت”، وكذلك الوثائق السرية للنتائج المتعلقة برسائل البريد الإلكتروني لهيلاري كلينتون. ويهدد إصدار هذه الوثائق بفضح الفخ الذي نصبه فريق كلينتون لترامب بمساعدة أجهزة الاستخبارات الأمريكية.

لقد أصدر مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية، جون راتكليف، مؤخراً بعض الوثائق، بما في ذلك ملاحظات مكتوبة بخط اليد لمدير وكالة الاستخبارات المركزية السابق، جون برينان، مأخوذة خلال اجتماع مع الرئيس السابق أوباما. وكشفت الملاحظات عن أن هيلاري كلينتون وافقت على خطة لـ “لتشويه سمعة دونالد ترامب وإثارة فضيحة من خلال الادعاء بأن أجهزة الأمن الروسية تدخلت”.

وقال تري جودي، الذي شغل منصب رئيس لجنة الرقابة في مجلس النواب، من 13 حزيران 2017 إلى 3 كانون الثاني 2019، في مقابلة في 7 تشرين الأول 2020، إنه لم يطلع على الوثائق مطلقاً.

ومع ذلك، كان كل من مكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة الاستخبارات المركزية على علم بهذه الوثائق، وكان بإمكانهما الوصول إليها. لقد احتفظا بها لمدة أربع سنوات، ورفضا الكشف عنها فيما يتعلق بالعديد من التحقيقات الحكومية التي ركزت على فضيحة “روسيا غيت”، والتي طلبت الوثائق ذات الصلة التي كانت في حوزة مكتبي الاستخبارات. هل هناك أحد يصدق بعد الآن أن مكاتب الاستخبارات هذه تعمل من أجل “الأمن القومي” الأمريكي؟