ناغورني كاراباخ.. نظرة إلى الخلف!!
“البعث الأسبوعية” ــ تقارير
تحققت نهاية الحرب في ناغورني كاراباخ بنتيجة لا زالت مثار دهشة، وعملت روسيا على تسليكها بسهولة لدى أرمينيا. ومع المفاجأة التي سقطت فوق رؤوس الجميع يبدو الوقت مناسباً مع ذلك للنظر في سبب ارتكاب عدد كبير من وسائل الإعلام البديلة خطأً تحليلياً كاملاً. لقد انتهى الصراع على كل حال، أقله في الأمد القريب، ولا بد من إلقاء ضوء وتوضيح صورة الوضع كما هو الآن، والتنبؤ بما قد يتبع ذلك في منطقة جنوب القوقاز.
بدعم روسي، قبلت أرمينيا فجأة بوقف إطلاق النار نتيجة الوضع الذي لم يكن مواتياً في ساحة المعركة. وينص الاتفاق بين الزعماء الأذربيجانيين والروس والأرمنيين على نشر قوات حفظ سلام روسية على خط التماس في ناغورني كاراباخ، وفي ممر لاتشين، بالتوازي مع انسحاب الجنود الأرمن من الأراضي المعترف بها عالميا باعتبارها تابعة لأذربيجان، والواقعة تحت سيطرة الإقليم منذ ما يقرب من ثلاثة عقود، بعيد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق. وستبقى القوات الروسية مدة خمس سنوات، ويمكن أن تمدد مهمتها إلى خمس سنوات إضافية، بموافقة مشتركة من أرمينيا وأذربيجان. ومع ذلك، يمكن لكلا الطرفين أن يعلنا عن نيتهما إنهاء الاتفاق قبل ستة أشهر من انتهاء مدته، والمرجح أن يحدث ذلك. إلا ان حيدر علييف رئيس اذربيجان قال أيضا ان قوات “حفظ سلام” تركية ستنفذ أنشطة مشتركة مع روسيا، بالرغم من أن الاتفاقية نفسها لم تذكر ذلك.
كما يسمح الاتفاق أيضاً بعودة جميع اللاجئين والمهجرين داخلياً إلى الأراضي التي كانوا فيها من قبل، فضلاً عن تبادل الأسرى ورفات القتلى وغيرها من الإجراءات الإنسانية. لذلك يمكن القول إن الاتفاق سيؤدي حتماً إلى تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي الأربعة بشأن هذا الوضع (القرارات 822 و853 و874 و884). ولكن من المثير للاهتمام أن الاتفاق يذهب أبعد من ذلك، إذ تتناول اخر النقاط التسع في الاتفاق إنشاء ممر بين المنطقة الغربية من أذربيجان وجمهورية ناخشيفان، التي تتمتع بالحكم الذاتي، يعبر جنوب ارمينيا، وسوف يتم التحكم بوسائل النقل من قبل حرس الحدود الروس، ما يكشف عن الدور المركزي الذي لعبته القوة الأوراسية العظمى في هذا الاتفاق.
ما الذي حدث؟
أقنع العديد من المحللين أنفسهم بأن روسيا وتركيا “تتنافسان” ضد بعضهما البعض في جنوب القوقاز، ليغضوا الطرف عن واقع التنسيق بين الجانبين خلال الصراع، والذي أدى في نهاية المطاف إلى مهمتهما المشتركة لـ “حفظ السلام”؛ فالعالم يستيقظ بسرعة على واقع جديد يفيد بأن الشراكة الاستراتيجية الروسية التركية هي واحدة من أهم القوى في ما يسمى “الشرق الأوسط الممتد”، من أذربيجان إلى سورية، وحتى ليبيا. والأرمن غاضبون من خداعهم من قبل رئيس وزرائهم باشينيان، الذي وجد نفسه يستسلم فجأة، بعد أن كان ادعى، وأعاد الإدعاء بشكل شبه يومي أنه لم يتكبد أي خسارة، وأن “النصر الكامل في متناول يده”، وكانوا غاضبين لدرجة أنهم قاموا باقتحام البرلمان الوطني ليلة إعلان الاتفاق؛ بل إنهم بدأوا في ذلك. إنه لأمر مثير للسخرية، لأنه ينذر بفكرة أن حركة احتجاج وطنية يمكن أن تؤدي للإطاحة بالرجل الذي وضع في السلطة من قبل ثورة ملونة موالية للغرب موّلها سوروس.
من غير المعروف ما الذي سيكون عليه مصير باشينيان، لكن إعلان وقف إطلاق النار الذي سهلته روسيا يمكن أن يؤدي بسرعة إلى التقارب مع تركيا المجاورة، والتي يمكن أن تطلق العنان لإمكانات جنوب القوقاز لتكون واحدة من أهم مراكز الربط الجيوستراتيجي في العالم. وتستفيد أذربيجان بالفعل من “الممر الأوسط” الذي يسمح بالتجارة بين الشرق والغرب بين الصين وأوروبا من خلال آسيا الوسطى وبحر قزوين وجنوب القوقاز وتركيا، فضلاً عن ممر النقل بين الشمال والجنوب الذي يربط روسيا بالهند عن طريق أذربيجان وإيران. ولكن يمكن، من الآن فصاعداً، دمج أرمينيا في المعادلة، للاستفادة من قدرة البلد على “الارتباط البري” دون الوصول إلى البحر. ولكن لكي يلوح مستقبل واعد كهذا، يتعين على الأرمن أن يتخلوا عن حلم “أرمينيا الكبرى”، فيما سيترك العنان لمخيلة أردوغان في الحلم بإعادة بناء الخلافة العثمانية.
إن النهاية المفاجئة لحرب ناغورني – كاراباخ فرصة لتقييمها، فاستجابة روسيا للتطورات السريعة، مع الالتزام بالحياد طوال فترة الحرب، على الرغم من الضغوط الشديدة للشتات الأرمني، ووسطائه الذين دعوا إلى تدخل موسكو لدعم يريفان، فضلاً عن دور موسكو المركزي في حمل أرمينيا على توقيع الاتفاق، يعزز مكانة روسيا كصانع للسلام وقوة إقليمية وعالمية. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن لهذه المنطقة الجيوستراتيجية الآن أن تحقق مصيرها في أن تكون بمثابة نقطة مركزية لربط التجارة على محاور الشمال والجنوب والشرق والغرب من خلال أوراسيا، ما سيعود بمنافع هائلة على سكانها الكثيرين، كما أنه سيعجل كثيراً بإعادة الإعمار في ناغورني – كاراباخ.