مجلة البعث الأسبوعية

نقوش .. من أقوال الوردة

“البعث الأسبوعية” محمد كنايسي

لا نعرف للوردة لغة إلا العطر، ذلك الذي يزيل للحظة رائحة البشاعة المنبعثة من جوف هذا العالم. لكن صمت الوردة يقول الكثير لمن يريد أن يسمع وما زال قلبه حيا.

فللطفل تقول: لا تفعل مثلهم يا بني، هم زرعوني في حدائقهم وحقولهم، أما أنت فلا تزرعني في أي مكان قبل أن تزرعني في عقلك وقبل أن تسكنني روحك ووجدانك.

وللطفلة تقول: حاذري يا بنيتي أن تعتقدي أن للعطر الذي يشترى قيمة، مهما طابت رائحته وغلا ثمنه، لأنه عطر اصطناعي لا يدوم.. العطر الحقيقي هو الذي ينبعث من قلبك، ومصنع العطر الطبيعي يوجد في داخلك.. الرقة والخير والجمال هذا هو ثالوث العطر الذي يشبهني.. هذا هو عطري وعطرك.

وللفنان تقول: أيها الباحث عن العطر في الكلمات أو الألوان أو الأنغام، أيها الساعي إلى تعطير الوجود بالشعر والرسم والموسيقا، لن تبلغ غايتك ما لم أكن دليلك، وما لم تتعلم مني أن العطر ليس مهنتي بل هو طبيعتي ووجودي، وأن فنك يجب أن يكون جوهر وجودك كذلك.

وللإنسان الذي خان الطبيعة، وسخرها لخدمة أهدافه الأنانية بأكثر الوسائل تدميرا وتلويثا تقول: لا تعتقد أنك انتصرت، فحربك على الطبيعة بهذا الشكل الجنوني لا معقولة، وهي باختصار تعجل بفنائك، وليس فيها أي خير لك مهما أرضيت غرورك وبدا لك أنك أصبحت السيد الذي يحكم الطبيعة بلا منازع..

كثيرة هي أقوال الوردة، لكن الانسان المحكوم بالتلوث السمعي والبصري، لا يسمعها، ولا يراها إلا كائنا تافها لا يستحق أي التفات أو اهتمام، ولا ينطوي على أي معنى يمكن أن يضعه أمام حقيقته المأساوية كإنسان مغترب ويذكره بانسانيته المفقودة. وكيف ينتبه إلى الوردة والعصفور والساقية من لا وقت له إلا للحروب. حروب تشكل الجزء الأكبر من تاريخ البشر، حروب يشنها الانسان بمنتهى الوحشية على كل شيء، على أخيه الانسان، وعلى غيره من المخلوقات، على الأرض والفضاء، على البحر والغابة وعلى الحيوان الأبكم.. وكأنه خلق للتدمير وليس للتعمير، ووهب العقل الذي حوله إلى أبشع الوحوش وأضراها بدل أن يجعله أشرف المخلوقات وأكرمها..

كثيرة هي أقوال الوردة لكنها أكثر من يعرف أن الانسان وهو ضحية غروره وأنانيته المفرطة لا يستطيع أن يسمعها. لذلك تعرف الوردة في صمتها العاطر وهي تنظر بحزن إلى هذا الكائن الغريب وترثي لحاله أنه يقف على حافة الهاوية، وتقول في نفسها بكل ألم : كم هو متعب وضعيف هذا الذي ما زال يعتقد انه مرتاح وقوي، كم هو تعيس وبائس هذا الذي مازال يعتقد أنه سعيد ومسرور.. ومتى سيستيقظ من غيبوبته العميقة ويعود من غربته الطويلة ليراني ويحبني!!