أقل ما يقال .. قصة نأي الصناعة عن البحث العلمي
“البعث الأسوعية” – حسن النابلسي
لا أحد ينكر أهمية أنشطة البحث العلمي – خاصة خلال القرن المنصرم – وانعكاساتها ليس على الصناعة فحسب، بل وعلى جميع مفاصل الحياة، نتيجة لما أحدثته من تقدم اقتصادي وخدمي في الدول التي وضعته في أولويات أجندتها، وعملت جاهدة لتجسيده على أرض الواقع، دون أن تبقيه حبراً على ورق، كما هو حال أبحاثنا التي تراكم الغبار على بعضها لاعتبارات تتعلق بتزعزع الثقة بجديتها وجدواها، والبعض الآخر تم إنجازه إما بهدف الحصول على درجة علمية متقدمة، أو بهدف الحظوة بترقية وظيفية، ما يعني أن البحث العلمي لا يزال في المراتب الدنيا من أجندتنا الحكومية، وخارج مفاهيم قاموس صناعتنا الوطنية، وإن بقي الحال على ما هو عليه فإن إسفيناً جديداً سيدق بنعش الصناعة!!
لعل الفجوة الكبيرة بين البحث العلمي وصناعتنا المعتمدة، بمعظم الأحيان، على القوالب الجاهزة والمستوردة، يمكن أن تتضح من خلال هذه القصة القصيرة، والتي تعكس نأي صناعيينا عن البحث العلمي.. وفحوى هذه القصة باختصار: “لم يشأ أحد أصحاب المعامل أن يطور آلات معمله، خاصة آلتي التعليب والتغليف اللتين صممهما أحد عماله بطريقة تقليدية، بحيث تعملان بالحدود الدنيا من الجودة والسرعة المطلوبتين، انطلاقاً من قناعته أن الشكل لا يعكس المضمون، فالأهم في العملية الإنتاجية – لديه – هو المنتج النظيف وغير المغشوش، بغض النظر عن سير عملية تصنيعه وسرعتها بالإنتاج.. فما فائدة الاهتمام بمظهر الآلات دونما العناية بما تنتجه، كونه يعمل وينتج بأقل ما يمكن من التكاليف الزائدة؟!”.
يفتقد هذا الصناعي – رغم جودة إنتاجه المرغوب في السوق المحلية – إلى الأفكار الجديدة التي من شأنها أن تعطي عجلة إنتاجه دفعاً كبيراً، وتزيد في نهاية المطاف من أرباحه، بل ويرفضها، مفضلاً الرضى بالحال دونما الدخول بدوامة التحديث، وما يترتب عليها من تكاليف عالية تثقل كاهله، ولربما تكون في النهاية غير مجدية.. فـ |عصفور باليد أفضل من عشرة على الشجرة” – على حد تعبيره!!
وتبرهن هذه القصة كذلك على عدم ثقة صناعيّينا بما تبتكره عقول وأدمغة باحثينا من أفكار واختراعات يمكنها أن تضاهي ما يتمخض عن أدمغة نظرائهم في الخارج. لذلك، يأبى كثيرٌ من مبدعينا العودة لأوطانهم بعد إتمام دراساتهم في بلاد الاغتراب، ويهرب معظم من يمتلك الخبرات العلمية المحلية العالية للخارج، إما للعمل، أو لإتمام الدراسة، والشواهد على ذلك لا تُعدُّ ولا تُحصى!!
لربما تظهر هذه القصة أن هناك حالة طلاق بين البحث العلمي والفعاليات الاقتصادية، بشكل عام، والصناعة بشكل خاص، وذلك لعدم وجود ثقة بين الطرفين، نتيجة عدم امتلاك كل طرف الصورة الإيجابية عن الطرف الآخر، فأصحاب المؤسسات الإنتاجية والخدمية ينظرون للباحثين على أنهم مجرد أكاديميين يعملون بأمور نظرية لا تمس الواقع، أما الباحثون فينظرون لأصحاب الفعاليات الاقتصادية بأن همهم الأول جمع المال والبحث عن الربح السريع!!
هذا الواقع يحّمل الجهات المعنية بالبحث العلمي مسؤولية أن تكون وسيطاً بين الطرفين -الباحثين والصناعيين – لبناء علاقة إيجابية وترسيخ الثقة بينهما، لأن هذه المسألة تعتبر غاية في الأهمية بالنسبة للاقتصاد السوري خاصة في ظل الانفتاح الاقتصادي وعصر العولمة، حيث لا مجال للصناعيين للاعتماد على حماية الدولة لهم، فكل دول العالم تعتمد حالياً على فتح الأبواب وتحرير الاقتصاد؛ لذلك على كلا الطرفين القيام بمبادرة تجاه الآخر، وإيجاد آلية تحقق الربح للطرفين، وتجاوز أكبر الإشكاليات التي تكتنف البحث العلمي في سورية، والمتمثلة بعدم تطبيق نتائجه على أرض الواقع مباشرة لدعم الاقتصاد والتنمية بشكل عام.