في مسارات النجاح.. تنافسية تفاضلية بين تفوق التحصيل العلمي وأولوية القيم الإنسانية
عند جلوسنا مع أطفالنا وسؤالنا عن أحوالهم نقوم عادة بالاستفسار وبشكل أساسي عن عدة أمور، مثل دراستهم ومدى تركيزهم ومستوى التحصيل العلمي لهم، وحتى لأصدقائهم وزملائهم، ونوجّه أمنياتهم لتبوء أفضل المراتب المهنية والوظيفيّة في المستقبل، وهكذا نكون قد ساهمنا في بناء جيل محبّ للعلم، وعند تبادل الأحاديث مع الناس نفتخر بشهادات أبنائنا، ونضعها كحجر أساس في تقييمهم ومفاضلتهم على أقرانهم، وبالتالي يشعر هذا الجيل أن الإنجاز الأوحد والأهم هو التحصيل العلمي فقط، وأنه هو دليل الذكاء الوحيد، ولكن يغفل الغالبية عند تربية الأبناء عن تعليمهم أن الأخلاق والإنسانية هي القيمة الأهم في حياة الإنسان، وأن عليهم اختيار الصديق ذي القيم النبيلة قبل اختيار المجد، مع عدم إنكارنا لدور العلم والمواظبة على التحصيل العلمي، وهنا نتساءل: هل الفاشل هو الفاشل دراسياً وعملياً ومادياً كما هو سائد في مجتمعاتنا؟ أم هو الفاشل في مبادئه الأخلاقية وحبه للغير وتعاونه مع غيره؟.
تدريس الأخلاق
التفوق الدراسي ليس دليل ذكاء بقدر ما هو دليل مواظبة ومتابعة، أو يدلّ على بعض الذكاء في مواضيع محدّدة، وكما نعلم فإن هناك شخصيات كثيرة عبر التاريخ عُرِفَت بالذكاء والدهاء، ولكن في الوقت نفسه كانت شراً على الغير أو على البشرية، حيث شنّوا الحروب الضارية وارتكبوا المجازر أو الإبادات العنصرية، أو حتى أحرقوا بلادهم بأيديهم، فما وجه الفائدة من ذكائهم ونجاحهم، ومراكزهم؟ يتساءل المرشد الاجتماعي أحمد إبراهيم محمود، ويوضح أنه وللأسف اهتمّ الكثير من أفراد مجتمعاتنا بحصول أولادهم على الشهادات الجامعية والدرجات العالية، والتفاخُر بها، إلا أنهم في الوقت نفسه أهملوا بناء أرواح أبنائهم وأخلاقهم بالاهتمام نفسه الذي يولونه للتحصيل الدراسي، وهكذا نجد من أبنائهم الطبيب والمهندس والمبتكر، ولكن قد نجد الكثير والكثير من بين هذه النماذج مِمَّن يحملون الأخلاق الساقطة، ويتّسمون بانعدام الإنسانية، والتفاهة، ويتفشّى بينهم الشر والكذب، والأنانية والنوايا السيئة لأقرانهم وأصدقائهم، وغيرهم ممن يتعاملون معهم من البشر في أي مركز حيوي قد يصلون إليه!.
ويتابع محمود: يستطيع الشخص أن يحصل على شهادة دكتوراه، وهي أعلى شهادة أكاديمية، ولكن ما الفائدة إن كان حاملها لا إنسانياً، فالأولى كان أن تكونَ أخلاقياً وبعدها احمل أي شهادة، ومن المؤكد أنها ستشكّل إضافة جيدة ورائعة لك، فالأخلاق أولاً ثم المعرفة، وهدف المعرفة الأول يجب أن يكون رفع سقف الأخلاق ومن ثم تفسير الظواهر والسلوكيات بالوصول لخلاصات تُحدّد أيضاً ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي، وهذا كلّه يجب أن يقودنا إلى تغيير المناهج الدراسية في سورية، وتدريس مادة الأخلاق كمادة أساسية بدلاً من حشو عقول الطلاب بمواد ومعلومات تعود لموروثنا الفاشل والبائس، والتي لا تقدّم شيئاً لا للعقل ولا للأخلاق كقصص الغزو والقتل والسبي والخيانات والتفرقة الخالية من قيمة مضافة أو حكمة أخلاقية، لا بل يجب تدريس الأخلاق. ويرى محمود أنه يتوجّب إعطاء علامة للأخلاق أيضاً من ضمن المواد الدراسية، وعلى الأهالي أيضاً العمل على تغيير منظومتهم الفكرية والتفاخر بأخلاق أولادهم قبل كل شيء، فالقيمة الاجتماعية يجب أن تُقارَب بالقيمة الفِكرية الإنسانية للإنسان وبالمستوى الأخلاقي وليس بدرجة الشهادة أو المنصب، أو كما يفعل البعض عند التفاخر بالمال!.
وأشار محمود إلى أن النظرة للأخلاق تختلف من مجتمع إلى آخر بحسب النظام التربوي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، حيث نجد الناس في المجتمعات التي يسود فيها الفساد تعطي قيمة أكبر للثروة المالية على الثروة الفكرية، بل ويتطاول حامل المال على حامل الشهادات وذي الأخلاق. ورغم أننا في سورية وضعنا التربية قبل التعليم كشعار وتسمية، لكن للأسف لا يوجد لدينا مناهج لتعليم الأخلاق.
لا تحتاج مناهج
“الأهل هم السبب وفاقد الشيء لا يعطيه”.. بهذه العبارة بدأ المرشد النفسي ياسر قاسم رأيه المخالف لسابقه، فذهب إلى أن الأخلاق لا تُعلّم بالتلقين، ولا عبر مواد دراسية، وإنما بالممارسة عن طريق الملاحظة والتقليد، فحتى لو غيّرنا المناهج ووضعنا مادة الأخلاق ضمن كتب مطبوعة فالنتيجة ستكون واحدة حشو معلومات لا أكثر، المفروض أن تكون الأخلاق نهجاً للحياة، وتنقل للمتلقين من الطلاب في كل حصة دراسية عن طريق المعلم القدوة والأقران بمواقف طبيعية أو حتى مفتعلة، كمساعدة الآخرين والقيام بتنظيف المدرسة وغيرها من النشاطات التي تعكس إنسانية من ينفذها.
في كل يوم نندهش من ممارسة بعض ذوي الشهادات لسقوطهم الأخلاقي، فأحد أصدقائي عانى من بعض الاضطرابات، وزار أحد الأطباء الذي أعلمه أنه يعاني من مشكلة عصبية، وبعد شهور من العلاج وإنفاق مئات الألوف من الليرات أعلمه ذاك الطبيب أنه لا يعاني من مشكلة عصبية، وعليه أن يراجع طبيب اختصاص هضمية، فما الفائدة من فكر وعلم هذا الطبيب إن كان الجشع المادي هدفه الأول؟، من ناحية أخرى فإن الأسرة ليست مهيأة لتربية هذا الجيل الذي سبقها بتطوره التكنولوجي، وهذه نقطة خطيرة، فعلى الأسرة أن تتأقلم سريعاً مع أي تطور تكنولوجي، لا أن تقف بوجهه بأي شكل فذلك على العكس سيسبب شرخاً أكبر في العلاقة مع الأبناء وإكسابهم القيم، والتطور بالنهاية هو سنة الحياة والهدف العريض لكل البشرية.
الأهل والتنشئة الاجتماعية
تعدّ الأسرة أهم عوامل التنشئة الاجتماعية، وهي الممثلة الأولى للثقافة وأقوى الجماعات تأثيراً في سلوك الفرد، وهي التي تسهم بالقدر الأكبر في الإشراف على النمو الاجتماعي للطفل، وتكوين شخصيته وتوجيه سلوكه، وفق ما أكده الدكتور معمر نواف الهوارنة عميد كلية التربية بدرعا، فللأسرة وظيفة اجتماعية ونفسية مهمّة، فهي المدرسة الاجتماعية الأولى للطفل والعامل الأول في صبغ سلوكه بصبغة اجتماعية، لذا يجب أن تتسم العلاقة بين الأب والأم أمام الأبناء بالحب والاحترام والتقدير، لأنها البذرة في تنشئة الأطفال، فالتنشئة الاجتماعية هي العنصر الأهم لأنها عملية تعلّم وتعليم وتربية، تقوم على التفاعل الاجتماعي وتهدف إلى إكساب الفرد سلوكاً ومعايير واتجاهات مناسبة لأدوار اجتماعية معينة، تمكّنه من مسايرة جماعته والتوافق الاجتماعي والنفسي معها وتكسبه الطابع الاجتماعي، وتيسّر له الاندماج في الحياة الاجتماعية التي يتمّ خلالها غرس القيم والمبادئ والتوجهات لدى الطفل، بحيث يتمّ تحويله إلى كائن اجتماعي ناجح، يجيد التعامل مع الغير بكل إنسانية.
ويتابع الهوارنة: التنشئة الاجتماعية هي عملية تحوّل متنامية للفرد من كائن فطري إلى راشد اجتماعي قادر على التكيّف مع المجتمع الذي يعيش فيه، والتعاون مع أفراده في تحقيق كل ما هو إيجابي، والتنشئة الاجتماعية عملية معقدة متشعبة الأهداف والمرامي تستهدف مهام كثيرة وتحاول بمختلف الوسائل تحقيق ما تصبو إليه، ويرجع ذلك إلى أهمية تلك العملية ودورها الكبير في خلق مجتمع خالٍ من الانحرافات الخلقية.
بشار محي الدين المحمد