منطق الحرب وتبعات اقتصاد السوق المتوحش
علي اليوسف
في عام 1990، ومع انهيار الاتحاد السوفييتي، وبروز الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى مهيمنة على الساحة الدولية دون منافس، ولو اضطرت إلى استخدام القوة العسكرية، وإن كانت غير قانونية ولاأخلاقية.
يصور ادغار موران في كتابه “هل نسير إلى الهاوية” الحاضر الذي نعيشه بصورة واقعية، حيث يرى أننا “نعيش فيما يشبه منطقة إعصارية ذات ضغط منخفض، ونشعر كأن عاصفة توشك أن تنفجر، ولكنها لا تنفجر، وتلوح كأنها تبتعد، ولكنها لا تبتعد، إن الوقت الحاضر يسوده اللايقين”.
منذ أحداث 11 أيلول زاد الإنفاق العسكري، واعتمد الإرهاب الدولي كتبرير لذلك، وجاء معه تأكيد لتسليح الفضاء الخارجي، ونشر أسلحة هجومية فتاكة في الفضاء أو توجيهها منه، الأمر الذي دفع الدول الأخرى للتوجس والعمل على تطوير قدراتها العسكرية النووية.
وإذا كان العالم قد نجا من حرب نووية كادت تعصف به إثر أزمة الصواريخ الكوبية 1962، فإنه اليوم قلق من حرب تتجدد معها مخاوف تلك الحادثة الرهيبة، وإن لم يتم استخدام هذا السلاح حتى الآن، فإن الظروف قد تتبدل وتظهر معها مستجدات- الصراع في منطقة الشرق الأوسط أبرز الشواهد على ذلك- قد تكون سبباً وجيهاً يقود إلى حرب لن تجد الدول سبيلاً لكسبها إلا باستعمال الأسلحة النووية، هذا الهاجس يعيشه العالم في بداية الألفية الثالثة، خاصة مع تنامي ظاهرة الإرهاب الدولي، وتأكيد الأصوليات المختلفة حضورها العالمي، وأصبحت معه العديد من الدول تلوح باستخدام هذا النوع من الأسلحة ضد أعدائها.
وحدانية السوق
ليس الإرهاب والقوة العسكرية وحدهما من أدوات الحرب، بل تمثّل الرأسمالية كنظام اقتصادي أحد أبرز الأنظمة التي ساهمت في بزوغ قوة الحضارة الغربية، وقد وفرت قدراً هائلاً من الراحة والرفاه للبشرية، ولكن ليس للجميع، وليس في جميع جوانب حياة الإنسان، فمن بين عيوب هذا النظام:
أولاً: تحقيق الأرباح للأقلية على حساب الأغلبية، لأن استفادة الأقلية من مزايا هذا النظام تأتي على حساب تحمّل الأغلبية لنقائصه وعيوبه، كما أن زيادة النمو الاقتصادي تأتي على حساب رأس المال الاجتماعي، وظهور اللامساواة، وزيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
ثانياً: إن جمع المال وتحقيق الأرباح وتوظيف الاستثمارات والمنافسة ميزة أساسية لهذا النظام، وتحقيق الربح المادي يأتي على حساب الخسائر على المستوى القيمي والأخلاقي، فالنظام الاقتصادي يتأسس على فلسفة تشدد على قيمة مستوى الحياة أكثر من أية قيم أخرى، ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال أصبح ينظر إلى مستوى المعيشة لدى الأمريكيين على أنه مقدس، ما يعني الدفاع عنه مهما كلّف الأمر ولو على حساب تقديم تنازلات عقلانية أو حتى أخلاقية كثيرة من أجل الحفاظ عليه، وما يعيشه العالم الغربي- وحتى دول العالم الأخرى بفعل العولمة- من انحلال أخلاقي دليل على ذلك، وبالتالي سيكون من أهم المؤشرات الدالة على اقتراب الانهيار الحضاري لأية أمة من الأمم.
في كتابه “الولايات المتحدة طليعة الانحطاط”، يرى روجيه غارودي أن مشاكل القرن العشرين الدولية سببها العميق والوحيد، رغم الاختلافات الظاهرية، هو الهيمنة الدولية الأمريكية، ووحدانية السوق التي تريد أن تفرضها على العالم، ويؤكد أن منطق سوق بلا قيود، وما يحمله من تضارب في المصالح بين الأفراد والجماعات التي لا ترى إلا مصالحها الخاصة، هو في الحقيقة منطق الحرب، حيث “حرب يشنها الجميع على الجميع”، وهي تبعات اقتصاد السوق المتوحش، إن ما يريده النظام الأمريكي في حقيقة الأمر ليس التجارة الحرة، بل هو احتكار المستقبل لصالح “الشركة الأمريكية” في حرية دخول الأسواق، واستغلال الموارد، واحتكار التكنولوجيا والاستثمار والإنتاج العالمي.
وإذا كانت الأفكار هي التي تحكم العالم، فإن سياسات القوى الكبرى (الهيمنة- التوسع- اقتصاد السوق) هي نتاج طروحات ورؤى نظرية لمفكرين وخبراء حملوا على عاتقهم مسؤولية إبداع الأفكار التي قادت إلى السياسات الحالية، وحددت مساراتها، وساهمت في تبرير أفعالها، وتثبيت نتائجها.
لذلك، إن تعدد الجهات التي تحظى مراكز الأبحاث من قبلها بالمساعدات المالية والدعم السياسي والتوجيه الإعلامي، يقود إلى التشكيك في مصداقية الإنتاج الفكري لخبراء هذه المراكز، ذلك أن الارتباط الدائم بالممول المالي والداعم السياسي (السلطة) يقود مخرجات هذه المراكز إلى خدمة أهداف هؤلاء بدل خدمة الأهداف الأخلاقية، وإن عدم تحرر الخبير والمفكر السياسي من خدمة السلطة ورجال المال، كما هو حال الكثير من خبراء مراكز الأبحاث الأمريكية، يقود بالضرورة إلى لي عنق الحقيقة لتبرير الأهداف السياسية أو الاقتصادية أو الطموحات الشخصية.
وفي ظل التحديات التي يواجهها العالم اليوم، يمكن التأكيد على أن هذا النوع من الخبراء ضمن هذه المؤسسات لا يساهم بأي شكل من الأشكال في معالجة التحديات، بل على العكس من ذلك يقود إلى مضاعفة المخاطر نتيجة تبرير السياسات الحالية المجحفة.