الحرب في أثيوبيا.. الجغرافيا السياسية للأرض المحروقة
سمر سامي السمارة
تشغل الحرب الأهلية التي اندلعت في أثيوبيا منذ ما يزيد عن أسبوعين الجارة اريتريا، وهناك مخاوف كبيرة من زعزعة الاستقرار الهش في المنطقة، في السابق خاض البلدان حرباً حدودية استمرت منذ عام 1998 ولغاية عام 2000، وأسفرت عن مقتل 100 ألف من الجانبين، أما اليوم وفي تطوّر غريب، تتحالف الحكومة المركزية الأثيوبية في أديس أبابا مع اريتريا في الحرب في منطقة تيغراي الشمالية، كما طلبت أديس أبابا من جنوب السودان نشر 4000 جندي لتعزيز قواتها في الهجوم ضد تيغراي.
اعترف قادة قوات إقليم تيغراي بإطلاق عدة صواريخ على مطار العاصمة أسمرا مؤخراً، وعلى الرغم من عدم وقوع إصابات، قالت “جبهة تحرير شعب تيغراي”: إن المطار هدف مشروع لأنه يُستخدم لإرسال طائرات حربية تابعة للقوات الموالية للحكومة الفيدرالية الأثيوبية لمهاجمة تيغراي، في المقابل تعرّضت المراكز المدنية في ميكيلي، عاصمة إقليم تيغراي، لقصف جوي.
يقول زعماء تيغراي: إنهم يخوضون حرباً على جبهتين: ضد القوات الموالية للحكومة الفيدرالية برئاسة رئيس الوزراء آبي أحمد، وضد الجيش الإريتري الذي يعبر الحدود إلى الشمال، وما يثير القلق بشكل أكبر وجود تقارير عن قيام الإمارات بنشر طائرات مسيّرة لدعم المحور الاريتري الأثيوبي، وهنا لابد من الإشارة إلى أن الإمارات تحتفظ بقاعدة جوية في مدينة عصب الساحلية الاريترية التي تطل على البحر الأحمر، حيث كانت تنطلق منها الطائرات المسيّرة في الحرب على اليمن.
رفض رئيس الوزراء الأثيوبي آبي أحمد نداءات الأمم المتحدة لإجراء مفاوضات سلام، واتهم جبهة تحرير شعب تيغراي بالخيانة والإرهاب، كما وصف هجومه على المنطقة، التي يبلغ عدد سكانها خمسة ملايين نسمة، بـ “العملية المتعلقة بالقانون والنظام”، إلا أن ذلك يتنافى مع سياسة تكتيكات الحصار الصارخ والعقاب الجماعي ضد السكان المدنيين، إذ انقطعت الكهرباء والمياه عن المنطقة بعد أن قصفت طائرات آبي الحربية محطة توليد الطاقة الكهرومائية في تيكيزي وتيغراي، ومصنعاً للسكر، وبالتالي، يرقى قصف قوات آبي للمراكز المدنية إلى مستوى جرائم حرب وإرهاب دولة.
الملفت هنا أن آبي حصل على جائزة نوبل للسلام العام الماضي، وقامت وسائل الإعلام الغربية بتلميع صورته كـ “مصلح ليبرالي”، وحصل على جائزة صنع السلام المفترض مع اريتريا بعد فترة وجيزة من توليه رئاسة وزراء أثيوبيا في نيسان 2018.
وعليه يكتنف الغموض وصول آبي إلى السلطة، بما في ذلك الصفقات السياسية التي ظهرت لاحقاً، والتقارب مع الاريتري أسياس أفورقي، والاتفاقات الخاصة التي لا يعرف عنها سوى القليل جداً، إذ لم يتم نشر أية تفاصيل حول التسوية السلمية المزعومة، حتى آبي لم يستشر مواطني تيغراي بشأن ما ناقشه مع أفورقي، على الرغم من أن سكان تيغراي هم الذين عانوا من وطأة النزاع الدموي مع اريتريا حول الحدود منذ عام 1998 ولغاية عام 2000، ويرى كثيرون أن آبي كان يعقد صفقة تناسب مصالحه الخاصة، ومن الغريب أيضاً أن التقارب الظاهر كان برعاية الإمارات المتحدة التي قدمت ميدالية ذهبية مزخرفة وسلسلة تُقدر بملايين الدولارات لكل من آبي وأفورقي من أجل “جهود السلام” المبذولة.
ولكن في الواقع، لم يشهد مواطنا تيغراي واريتريا، اللذان ينحدران من أصول عائلية مشتركة، أي تطبيع في العلاقات، ولاتزال الحدود مغلقة، والعائلات ممنوعة من السفر لزيارة بعضها البعض، ما يشير إلى أن جائزة نوبل التي حصل عليها آبي كانت تتعلق فقط بالعلاقات العامة لتشكيل صورة دولية حميدة، وهنا لابد من الإشارة إلى أن التكريم مفيد خلال الهجوم الأخير على تيغراي، حيث تعمدت وسائل الإعلام الغربية بشكل روتيني ذكر جائزة نوبل التي حصل عليها إلى جانب مزاعمه بإجراء “عملية تتعلق بالقانون والنظام” ضد “جبهة تحرير شعب تيغراي الإرهابية”، حيث تمنحه جائزة نوبل مصداقية حيوية، ودونها، يمكن رؤية أفعاله بشكل أوضح على حقيقتها، واعتبارها جرائم ضد الإنسانية، فمنذ مجيء آبي إلى السلطة، دخلت أثيوبيا في اضطرابات واشتباكات عنيفة بين مجموعاتها العرقية.
تشير وسائل الإعلام الغربية عادة إلى أن الفوضى كانت نتيجة “إصلاحات” “كشفت اللثام” عن التوترات الداخلية، ولم توضح وسائل الإعلام أبداً كيف أن هذه “الإصلاحات” بطريقة سحرية “تكشف اللثام” عن التوترات.
إن ما ترقى إليه إصلاحاته هو تشكيل حكم الحزب الواحد تحت قيادته، إذ قام العام الماضي بحل ائتلاف الأحزاب المعروف باسم “الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الأثيوبية” لتشكيل حزب “الازدهار” تحت قيادته.
كان آبي سابقاً وزيراً للعلوم والتكنولوجيا في حكومة الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الأثيوبية، وهو ما يتعارض مع الادعاءات بأن النظام القديم كان يميز فصيل جبهة تحرير شعب تيغراي، على أي حال، رفض فصيل التيغراي الانضمام إلى حزبه الوحدوي الجديد، ثم ألغى آبي الانتخابات المقرر إجراؤها هذا العام بحجة انتشار جائحة كوفيد -19، واتهمته “جبهة تحرير شعب تيغراي” بالسعي إلى سلطات دكتاتورية، ومضت قدماً في الانتخابات الإقليمية في أيلول، ما دفع آبي إلى إحكام معارضته للجبهة.
كان استهداف أبي لـ”جبهة تحرير شعب تيغراي” مطروحاً منذ توليه السلطة قبل أكثر من عامين في الإدارات الإقليمية التسع في أثيوبيا، وقد قام بإقالة شاغلي المناصب واستبدالهم، وقد تسبب هذا التعديل في الكثير من العنف بين الطوائف، أو ما تشير إليه وسائل الإعلام الغربية بخجل على أنه “رفع الغطاء” عن التوترات.
لم يكن الأمر كذلك في منطقة تيغراي التي كانت دائماً قوية سياسياً وعسكرياً، ولطالما اشتبه أهل تيغراي في أن آبي هو شخصية حصان طروادة هدفه إضعاف الاستقلال السياسي والاقتصادي لأثيوبيا من أجل إعادة تنظيم الدولة المهمة استراتيجياً بعيداً عن الشراكة مع الصين، لتكون منفتحة على رأس المال الغربي، وتقول مصادر أثيوبية: إن آبي جندته وكالة الاستخبارات المركزية عندما عمل في السابق برتبة مقدم في المخابرات العسكرية، واتصل بنظرائه الأمريكيين قبل الانتقال إلى السياسة، ومن المفارقات أنه يتهم معارضة التيغراي بالخيانة.
هذه هي الخلفية الجيوسياسية لاندلاع الحرب في أثيوبيا، حيث تهدف واشنطن وأنظمة الخليج فصل أثيوبيا عن خطط الصين للتنمية الاقتصادية العالمية، المعروفة باسم “طريق الحرير الجديد”، لذلك إن ثاني أكبر دولة في أفريقيا من حيث عدد السكان تنغمس في حرب كارثية تهدد بابتلاع القرن الأفريقي، إنها الجغرافيا السياسية للأرض المحروقة.