تحديات إدارة بايدن
ريا خوري
لم تكن مغادرةُ الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، المنتهية ولايته، البيت الأبيض سهلةً، بل كانت أمراً صعباً ومعقداً، فقد خلف وراءه إرثاً هائلاً من الملفات الخطيرة والمعقّدة وقعت جميعها على كاهل الرئيس الجديد المنتخب جو بايدن، وخاصة تلك الملفات المتعلقة بالسياسة الخارجية الأمريكية، أبرزها وأعقدها التصعيد غير المسبوق مع جمهورية الصين الشعبية، الذي حذّر منه منذ عدة أيام وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية الأسبق هنري كيسنجر، حين قال: “إن العالم سينزلق نحو كارثة كبيرة مماثلة للحرب العالمية الأولى إذا بقي التوتر بين الولايات المتحدة وجمهورية الصين الشعبية”. ليس هذا فحسب، بل هناك توتر ساخن مع جمهورية روسيا الاتحادية، والمتمثّل بانسحاب الولايات المتحدة من معاهدة “الأجواء المفتوحة”، إضافة إلى الملف الساخن المتعلق بجمهورية إيران الإسلامية، الذي وصل إلى مستوى إرسال الولايات المتحدة منذ أيام القاذفة الإستراتيجية (B 52) إلى الشرق الأوسط في مهمة طويلة وغير محدّدة.
هذه الهدايا الملغومة قدّمها وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو للرئيس المنتخب جو بايدن، والتي جاءت على شكل احتمالات مطروحة على الطاولة، والمقصود هنا الاحتمال العسكري. هذه الخطوة تهدف إلى إرباك كل ما يمكن أن يقوم به بايدن للتعامل مع هذه الملفات، لكن ليست هذه هي الملفات الوحيدة التي تقع على كاهل الرئيس الجديد، بل هناك ملفات لا تقلّ أهمية عن سابقاتها تتعلق بالسياسة الخارجية، مثل العلاقة مع الحلفاء الأوروبيين، والعلاقة مع المنظمات الدولية المتخصّصة، والتي لها مكانة رفيعة في العالم، وانسحبت الولايات المتحدة منها، واتفاقية المناخ الدولية وهي من الاتفاقيات المهمّة جداً في وقتنا الحالي الذي يشهد تقلبات مناخية كبيرة غير مسبوقة.. وغيرها.
على الرغم من هذا كلّه، فإن تحديات الداخل تفوق عشرات المرات التحديات الخارجية، وتفرض نفسها بثقلها على الإدارة الأمريكية الجديدة. وإذا كان بايدن قد أعطى أولوية للتعامل مع قضيتين جوهريتين شديدتي الإلحاح، هما مواجهة جائحة كوفيد 19 (كورونا)، وإيجاد حلول عاجلة وناجعة للتدهور الاقتصادي الأمريكي، إلا أن هناك تحديات أربعة أساسية ومحورية، يمكن أن ترقى إلى مستوى استراتيجي، ستكون هي المحدّد الأساسي لتمكين إدارته من إنجاز برنامجها الرئاسي من عدمه، وهي: العمل بشكل جاد وسريع لاستعادة المكانة المتداعية للديمقراطية الأمريكية التي تعتبر أبرز دعائم النظام السياسي في الولايات المتحدة الذي أضحى مهدّداً، وكذلك العمل على استعادة وحدة المجتمع الأمريكي الذي أضحى مجتمعاً مهدّداً بالانقسام، ليس فقط الانقسام السياسي بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، بل أيضاً انقسام عرقي اثني واجتماعي وثقافي واقتصادي، إضافةً لكل ما سبق محاصرة ظاهرة “الترامبية أو الترامبوية”، إن جازت التسمية، التي أخذت تستفحل داخل المجتمع الأمريكي بشكلٍ مخيف. كما يقع على عاتقه العمل على تحقيق التوازن داخل الحزب الديمقراطي الذي اعترته الكثير من الشوائب، منها التنافس بين أجنحته التي قد تهدّد وحدته، على غرار ما يتهدّد الحزب الجمهوري من انقسامات وصراعات متعدّدة، منها الخفي ومنها المعلن.
نعم إنها تحديات ممتدة، أي لا يمكن القضاء عليها نهائياً بإجراءات بسيطة وسهلة ومحدّدة، ولكنها بحاجة إلى معالجات طويلة الأمد مقرونة بإجراءات سريعة على الأقل لإيقاف تداعياتها المتدحرجة، وإعاقتها لإدارة بايدن في مواجهة الملفين الرئيسيين اللذين يحظيان بالأولوية على كل القضايا والملفات، ويستلزمان سرعة كبيرة في التحرك، وهما مواجهة جائحة كوفيد 19 (كورونا)، ومعالجة الأزمة الاقتصادية المتفاقمة.
هذه التحديات من المحتمل أن تتفاقم في ظل وعود ترامب المتكررة بعدم الاستسلام. صحيح أن ترامب أعطى مضطراً الإذن والسماح لرئيسة إدارة الخدمات العامة في الولايات المتحدة إميلي ميرفي للتعاون مع فريق العمل الذي يترأسه جو بايدن في ما يتعلق بالانتقال السلمي للسلطة الحاكمة، وأعطى الإذن لإدارته لتبدأ التعاون مع فريق الرئيس الجديد للغرض نفسه، إلا أنه، أي دونالد ترامب، استدرك في إحدى تغريداته: “قضيتنا تسير بقوة، وسنواصل المعركة، لكن لمصلحة بلادنا أوصي بأن تقوم إميلي ميرفي وفريقها بما تقتضيه البروتوكولات الأولية، وأبلغت فريقي أن يقوم بالأمر ذاته”. ورغم هذه التغريدة العاطفية، إلا أنه في قرارة نفسه يرى أنه الفائز في الانتخابات الأخيرة، وأنه سيواصل طريق التقاضي، وإن كان لذلك من دلالة فإنه يعني أن الطريق أمام إدارة الرئيس الجديد لن تكون سهلة وميسّرة، بل من المؤكد ستكون مليئة بالعقبات، كمن يضع العصيّ بالعجلات لإفشالها، وقد تكون البداية من مجلس الشيوخ الأمريكي، حيث تبدأ عرقلة عمل وجهود إدارة الرئيس المنتحب، ابتداءً من التصديق على ترشيحاته لمن سيتولون المناصب الوزارية الكبرى والتي يطلق عليها وزارات سيادية.
قد تكون هذه مجرد بدايات، لكن الأصعب من كل ما سبق هو “التمرّد الشعبي” في ظل انقسام المجتمع الأمريكي واستقطابه بشكل كبير وحاد. هذا النموذج من التمرّد قد يتحوّل إلى دموي بشكل فعلي في ظل كثافة التسلح الفردي لدى المواطنين الأمريكيين، وإدخال البلاد في حالة كبيرة من الفوضى قد لا تكون مطلقاً “فوضى عاقلة”، عندها سوف يستفحل المشروع الشعبوي الترامبي الذي سيبقى سيفاً مسلطاً على رقاب جميع العاملين في إدارة بايدن!.