بين الاشتعال و”الصبر الاستراتيجي”
أحمد حسن
من يراقب مجريات “اليوميات السياسية”، وتحديداً في عواصم العالم الفاعلة، يمكن له تلمّس حالة عدم اليقين التي تسود نخبها الفاعلة المنتظرة، فعلياً، انتهاء حالة “اللايقين” الحالية في واشنطن لمعرفة صورة المرحلة المقبلة، وبالتالي لتبني، هذه العواصم، على الشيء مقتضاه، كما يمكن للمراقب ذاته ملاحظة ارتفاع وتيرة الصراع الدائر بين فريقين، الأول يبحث عن إشعال العالم استغلالاً لهذا الاضطراب واستباقاً لما سيليه، وبالتالي المساهمة الفاعلة في رسم صورة المرحلة المقبلة وفق ما يراها ويتمنّاها، والثاني يبحث عن التهدئة انتظاراً لبلورة المعطيات وتوضّح الصورة النهائية، وبالتالي المساهمة، الفاعلة أيضاً، في رسم صورة المرحلة المقبلة وفق ما يراها ويتمنّاها أو، على الأقل، توقي انعكاساتها السلبية عليه وعلى بلاده.
للفريق الأول ينتمي الكيان الصهيوني و”أصدقائه” في المنطقة والعالم. اغتيال العالم النووي الإيراني يأتي في هذا السياق بحثاً عن “إشعال” ربع الساعة الأخير من ولاية ترامب بحيث لا تكون النتيجة أقل من إرساء أمر واقع يصعب على أحد -تحديداً إدارة “جو بايدن” القادمة- تجاوزه، وبالتالي وأد إمكانية العودة الأمريكية إلى اتفاق نووي ما مع طهران، تمهيداً لتطبيع، يصبح منطقياً، للعلاقات معها.
للفريق الثاني ينتمي من يشدّد على فكرة “الصبر الاستراتيجي”، سواء كان إيرانياً يرى من وجهة نظره ضرورة السعي إلى الهروب من “فخ التوتر”، كما أسمته صحيفة إيرانية، أو أمريكياً يسعى إلى التخفيف من مخاطر التوتر الإقليمي حالياً كي تبدأ الإدارة المقبلة عملها متخفّفة من أوزار سياسات السلف الترامبي المعروفة.
“جون برينان” المدير السابق للمخابرات الأميركية دعّم هذه الفكرة حين غرّد معلقاً على الاغتيال بقوله “كان عملاً إجرامياً متهوراً للغاية، وينطوي على مخاطر انتقام مميت وجولة من الصراع الإقليمي، وسيكون من الحكمة على القادة الإيرانيين انتظار عودة قيادة أميركيّة مسؤولة إلى المسرح الدولي، ومقاومة الرغبة في الردّ على الجناة المفترضين”.
إذاً المطالبة بالصبر الاستراتيجي لا تقتصر على بعض الداخل الإيراني، بل تشمل أيضاً فئة وازنة، ومؤثّرة، في الداخل الأمريكي، وإذا كنا لا نملك إمكانية التفتيش في نوايا “برينان” ومقاصده النهائية، إلا أننا نملك الشك المعقول في أن الدعاة الأمريكيين لفكرة “الصبر الاستراتيجي” و”انتظار قيادة أمريكية مسؤولة” وحصرها بإيران فقط لا غير، لديهم مآرب أخرى ربما أهمها إيصال هذه الأخيرة -أي طهران- منهكة وضعيفة أمام استحقاقات مفصلية مع الإدارة الأمريكية القادمة، وبالتالي فهذه “الدعوة”، في المحصلة، صنو “الإشعال” في ريائها وابتذالها ونتيجتها النهائية.
إذاً المنطقة والعالم في سباق بين الإشعال والصبر الاستراتيجي. هنا تحديداً، تقف طهران، بوصفها العاصمة المعنية -نتيجة الاغتيال- بهما معاً، وإذا كانت الضرورة تحتّم عليها الرد الحاسم على عملية الاغتيال المجرمة، ليس بهدف الانتقام للرجل أو للهيبة والكرامة الوطنية، وكل ذلك مطلوب بل ومشروع أيضاً، بل بهدف المساهمة الفاعلة في رسم صورة المرحلة المقبلة للمنطقة والعالم، فإن الضرورة أيضاً تحتم عليها أن يكون ردها خلّاقاً يسهم في “إشعال” محدود ومحسوب بدقة، ويوزع، بالمحصلة النهائية، قيمة الصبر الاستراتيجي على الجميع.