على كتف الأرق..!
د. نهلة عيسى
ترتمي كلماتي كلّ أسبوع في أحضان عيونكم، لأن الارتماء في حضن الحب، حتى لو كان نصاً، مجرد نصّ، هو أشبه بالبكاء على كتف عابر سبيل، وقف ليطلب الماء، فسالت من العيون الماء، أو ربما هو البديل الطبيعي لميتاتنا المتعدّدة، والمتكررة، والمتلاحقة، وتناسياً متعمّداً، لمعادلة اللا نصر، واللا خسارة المفروضة علينا، وتفادياً لغضب عارم يسكن الصدور من هدرٍ لحقٍ يحميه الرجال بالدماء، وتتناوشه بمناقيرها غرائب البين، وعاقرو النوق، وتلامذة تاجر البندقية!.
ترتمي كلماتي في أحضان عيونكم، لأن الحب وطن، خاصة.. عندما يكون الوطن في غرفة الإنعاش، وارتماؤها في أحضان عيونكم.. انتماء، خاصة وأن الانتماء في بلادنا أصبح قصاصاً، واستفساراً عن إلى متى؟ وعود ثقاب، للمنطفئين حسرة، والنازفين صمتاً، والمستجدين مطراً، يغسل “ديكورات” الصبر المزيّف عن وجه الوطن والزمن، كي تتدفق أحزاننا، وتغسل عن أرواحنا أكذوبة الفجر القادم، تحت وقع حصار من يديرون شؤون مواجهة الحصار.
ترتمي كلماتي في أحضانكم، لأن قلبي مثل الجميع، منذ عشر سنوات، تحوّل إلى حجرة كاتمة للأوجاع، أغادر منها موتي كل صباح، بادعاء الحياة، والتجوّل في الطرقات، لأفتش في الوجوه عن رفض، لكان وأخواتها، وللسين وسوف، وكل حروف التسويف، وحروف الجر، والضمائر المستترة، ومتاريس أكياس الادّعاء، وأركض خلف ظلي وظلال الناس، وأنسج منها، بأدوات الوصل.. حكاية، قد تكون وهماً، لكن يكفيني أنها: وهم حب، وهي حقاً انتماء.
ترتمي كلماتي في أحضانكم، وتسألكم كلّ مرة: هل تنامون؟ أنا لا أنام، وقلّة نومي ليست أرق عشق، بل أرق جرح، يتّسع بوصة تلو بوصة، جراء هرولتي المحمومة، في أروقة البرامج التلفزيونية، التي تجمع الشامي على المغربي، على المرتكي، وسماع المهاترات الكلامية، حول يجب وماذا وكيف ولماذا؟ وفي الخلفية صور طوابيرنا، تستكمل كسر ظهر الوطن فقرة تلو الأخرى، على وقع نشيد “سورية يا حبيبتي”!.
هل تنامون؟ أنا لا أنام، لأننا رغم نزيف الوطن، لا نتوقف عن صفع بعضنا البعض، وحصار بعضنا البعض، حتى أصبح كلّ واحد منا جمهورية، يفرض قانونه الخاص، ويحاكم البشر كلهم وفقاً لحالته النفسية، وتغيّراته المزاجية، وبندول مصالحه الفردية، وشعاره المعلن “كلنا للوطن”، وحقيقة الأمر “كلنا على الوطن”!.
هل تنامون؟ أنا لا أنام، لأن كلّ شجارٍ في شوارعنا، بل كلّ عرسٍ، أو تشييعٍ، بات احتمالاً منطقياً، للذهاب في رحلة دائمة إلى الأبدية، بحيث أصبح من العبث، السؤال: عن هوية القاتل فينا؟ لأن في ثوب كلّ منا قاتل، ومشروع قتيل، يذكرنا بأن قابيل على أهراء الفجر الأول جندل هابيل، وبوسعي أن أقسم أن المأساة على مسرحنا ما زالت حيّة.
هل تنامون؟ أنا لا أنام، لأن سورية التي احتضنت، عبر الزمان، الكردي والأرمني والشركسي، والفلسطيني، ومن ثم اللبناني، والكويتي، والعراقي، وغيرهم كثُر، ومنحتهم قلب الأم، وساعد الشقيق، وبيت الأب، دون منّةٍ أو تعيير أو تفضيل أو حتى تذكير، سيقت بيد ابن الدار، والشقيق، والصديق، وعلى شرف العدو، إلى فم ضبعٍ أعمى، تمّ تعطيشه وتجويعه، ومن ثم فتح باب القفص له، باعتبارها فريسة آن أوان التهامها!.
هل تنامون؟ أنا لا أنام، لأنني مصرّة على أن أرى وجه وطني نقياً، رغم كل التزييف، والتزوير، والتجريح، وما زلت مؤمنة رغم كل الوجع والقبح، وتسابق من يدعون بنوّته، على إعلان مزادات بيعه قطع غيار، مقابل كراسي بلاستيكية، أنه سيبقى واحداً، متحدياً، صامداً مقاتلاً، وعصيّاً، على الموت والحصار والنار، وأنه لن يركع للتهديد والوعيد والمقاطعة، ولن ترهبه أسلاك الكهرباء المقطوعة، وصنابير المياه الجافة، والمدارس والمستشفيات المدمّرة، وطوابير الشهداء الأحياء على أبواب المخابز، ولن ترتسم علامات الهلع على قسماته رغم السكين على رقبته، لأنه يدرك، أنه يدفع ضريبة الياسمين الدمشقي، الذي يودع حياته بعطره، يدفعها شبراً شبراً، وبيتاً بيتاً، وفرداً فرداً، ليثبت (ربما للمرة المليون)، أن الحسين رغم كربلاء يبقى الحسين.