“الجريمة والعقاب”.. راسلينكوف يقرأ العالم
لم يقم “راسلينكوف” بقتله العجوز صاحبة العمارة التي يقطن في إحدى غرفها البائسة، مجاوراً عشرات الجحور التي يقطنها أناس بؤساء غيره، لأي من الأسباب النفسية والمادية والمعنوية، التي تقف خلف هذا الفعل الأزلي المرتبط بنشوء البشرية ذاتها سواء في الأسطورة، أو في التطور والتصوّر الغيبي الذي طرأ عليها -أي في الفكر الديني البسيط-، إنه ليس مضطرباً عقلياً، كما أنه ليس لصاً، لا هي حبيبته وهجرته إلى غيره، وما من ثأر شخصيّ له عندها، كما أنها ليست شيطانة أو من تجليات إبليس، إنما هي من البشر الذين لا يسبّب وجودهم إلا الأذى للآخرين، -وهي هنا رمز الشر والتجسيد الشكلي والنفسي له- وهنا تظهر فلسفة “راسلينكوف” التي تقف خلف فعل القتل، الذي قام به بعد تفكير وتصميم، لم يكن محسوماً تنفيذه له بسبب جسده المنهارة قواه، من الفقر وشحّ الطعام والظروف غير الصحية واللا إنسانية التي يحيا بها في الغرفة التعيسة التي تؤجره إياها تلك العجوز، إنها فلسفة الطبيعة نفسها وتمظهراتها في عناصرها ومكوناتها بمختلف أنواعها.
حسب راسلينكوف بطل “الجريمة والعقاب” الرواية الأشهر للأديب الروسي “دوستويفيسكي” هناك نوعان للبشر، “النوع الأول أو الفئة العليا” وهم البشر العظماء، الخالدون، القادة، الفلاسفة، الشعراء، الأنبياء، وغيرهم من محركي عجلة الحضارة ودفع التاريخ للأمام تحت أي ظرف ونتيجة، وهؤلاء هم الذين يضعون القوانين ويديرون شؤون الحياة بمختلف مفاصلها، لا سلطة للقانون عليهم، لأنهم من عظيم فكرهم، شقوا ويشقون الدروب التي سارت وتسير عليها البشرية، هؤلاء يحق لهم أن يفعلوا كل شيء يرونه مناسباً لمشروعهم كالحروب دون عقاب، وقد انتخبتهم الطبيعة بعناية فائقة لهذا، هذه الفئة هي الفئة العليا في الهرم البشري، حسب التصور والفهم المادي والفلسفي لدى بطل “الجريمة والعقاب”.
أما النوع الثاني، “الفئة الأدنى” فهو النوع الموجود للتكاثر وشؤونه اللاحقة في الحياة، الناس وانشغالهم المحموم بتلبية حوائجهم الغريزية بأنواعها، وعليهم أن يطيعوا القوانين التي وضعتها الطبقة العليا، باعتبار التشريع الذي وضعوه، هو من سيهتدي الناس بهديه في أي زمان ومكان، هذا ما كان يدور في ذهنه وهو يفكر بقتل العجوز، والذي سيكون له أثره الجيد في انعدام الاستغلال والانحطاط الإنساني الذي ترمز له شخصية العجوز بسلوكها الذي تسلكه.
عديدة هي الأمثلة في التاريخ على هذه الرؤية، لا تبدأ بأفلاطون وتصوّره للمدينة الفاضلة وكيفيّة تحقيقها، ولو بالقسوة والظلم الذي سيؤدي إلى العدل المطلق في النهاية، ولا تنتهي عند الشخصية الخارقة في وجدان بطل الرواية، الذي يرى أن “نابليون” مثلاً من عظماء التاريخ، لما صنعه في المرحلة التي تَسيّد فيها العالم تقريباً، فما قام به في تاريخه، يضعه في مصاف قادة التاريخ وحركته وما نتج عنها من تبدلات عميقة في الفكر الاجتماعي ومنعكساته في الواقع، فحروبه الكبيرة التي قادها ووجّه دفة أهدافها، تقف خلفها فكرة عظيمة من جهة كونها تريد أن تعيد صياغة ترتيب العالم القائم ولو بالقوة من جديد، تحت راية واحدة وأسلوب منسجم في الحياة بمختلف مناحيها بين مختلف المجتمعات، طبعاً كان قد سبقه لذلك العديد من قادة حركة التاريخ، ويعتبر أهمهم تلميذ المعلم أرسطو “الاسكندر المقدوني”، قد يكون ما فعله في تاريخه الحافل بالانتصارات، هدفه تحقيق أمجاد شخصية وفق بعض الدراسات التي أجريت وتُجرى حتى اليوم، عن الدوافع والأسباب الكامنة خلف ما قام به، لكن الفكرة التي تقف خلف ما فعله هذا القائد الأسطوري في توحيد العالم، وذلك من خلال الربط الثقافي والفكري –إنشاء مسارح ومكتبات عظيمة- بين أهم المدن التي أنشأها خلال حروبه الطويلة على شواطئ البلاد التي غزاها، وعمل على توحيدها ثقافياً بتأثيرات من معلمه الكبير أرسطو، هي فكرة عظيمة في توحيد العالم وإنهاء حالات الحروب والنزاعات البشرية بأنواعها، والمستمرة منذ بداية الظهور البشري في حال تحقّقت نتيجتها، وإن كان ذلك لا يمكن إنجازه إلا بالحرب نفسها، وهذه فكرة لا يُقدم عليها إلا صاحب رؤية فكرية عليا، وإن عدنا إلى طبيعة ما اتفق عليه بكونه “الجريمة الأولى في التاريخ”، وجردناها من التأويلات والإضافات والتفاسير التي تعاملت معها وفق منطق واحد في العقلية الجمعية الإنسانية، فسنجد أن فعل القتل هنا هو فعل مجازي، فتاريخياً أضحية “هابيل” تعطي تصورات وانطباعات عن المرحلة الرعوية التي كانت سائدة؛ المرحلة التي انتهت فعلياً بالانتقال إلى الزراعة، ومجازياً بفعل القتل، وهذا الانتقال حسب علماء الاجتماع والباحثين في الميثولوجيا، هو الانتقال إلى المرحلة الحضارية الأهم في التاريخ البشري بعد ترك الإنسان للرعي واشتغاله في الزراعة، التي جلبت أول ما جلبت الاستقرار وبدء دوران عجلة التطور المادي البشري، من تدجين الحيوان واختراع الطاحونة اليدوية وما تلا ذلك من قفزات نوعية في التطور البشري، ما كانت لتكون لولا أفول المرحلة الرعوية، وبهذا يكون القاتل إنما قام حين هَمّ ليهوي بالحجر على رأس أخيه ليقتله، بوضع اللبنة الأولى في درب التطور الإنساني. أيضاً العالم الذي يعمل على اكتشاف أدوية لأمراض مستعصية، لربما تُزهق من وراء تجاربه عشرات الأرواح في مرحلة الاختبارات للعقار على الإنسان، لكنه عندما يصل للنتيجة المتوخاة، فإن البشرية كلها ستستفيد من ذلك، والأمثلة في العالم المعاصر كثيرة، كالعقل الذي غَيّر العالم تغييراً جذرياً بعد اختراعه الحاسوب وبعده الانترنت.
تحليل دوستويفيسكي الفلسفي الاجتماعي على لسان بطل روايته، هو من الأمثلة الناصعة على القدرة الخارقة للأدب ولفن الرواية بشكل خاص، على الغوص بعيداً في أعماق النفس البشرية، ووضعها كلاً من المنطق والعلم والفلسفة.. وغيرها، في خدمة وصولها إلى مبتغاها في الكمال، فما فعله راسلينكوف بعد أن أخضعه للكثير من المراجعات والتحليل والاستقراء والاستنتاج، هو حقيقة ما يحدث في العالم اليوم، كما في الأمس البعيد والقريب، فئة قليلة من الناس وهي الفئة العليا، تبتكر وتخترع وتسنّ وتُقدّم، والفئة الأدنى والأكثر عدداً، هي التي تتبع وتَستهلك وأيضاً تُستهلك.
تمّام علي بركات